النظام الرئاسي خبرناه ستين عاما، وخبرنا قبله حكم البايات قرونا، فهم أيضا حكموا بأمرهم تماما مثلما حكم المخلوع، ومثلما يحنّ البعض الآن إلى الحكم مثلما كان يحكم، وما كان السابقون جميعا، جملة وتفصيلا، عادلين، ولكنهم كانوا بالتأكيد مستبدين. زائد أن البايات لم يجنّبوا بلادنا الاستعمار، بل وخضعوا له تماما. وبعيدا عن الدعاية التي عشنا تحتها بعد الاستقلال، ها نحن ندفع ثمن سياسات الحكم الفردي، اللاتوازن الجهوي، الارتهان إلى الخارج، بما في ذلك صندوق النقد الدولي، زائد اللوبيات العائلية، زائد الاستبداد....
النظام الرئاسي، هو ما تطلبه القوى التي تريد أن تتحكم في بلادنا وفي مقدراتها، لأنه يسهل عليها أن تضغط على فرد من أن تضغط على برلمان. يمكنها بطبيعة الحال أن تشتري بعض النواب أو بعض القيادات أو بعض الأحزاب، ولكنها لن تجمعهم جميعا في قبضة واحدة، وتعطيهم أمرا واحدا فينقادون إليها، فذلك مكلف على جميع الأصعدة، بينما يمكنها بكل يسر أن تراهن على أكثر من واحد في سباق الرئاسيات، وتضمن ولاء الفائز منهم، فإن لم يكن ذلك، يمكنها أن تضغط على أي رئيس، حتى يستجيب لطلباتهم، ويراعي مصالحهم، وهكذا كانوا يفعلون مع بورقيبة، ومع المخلوع. ومع أي حاكم فرد. تتذكرون مثلا عندما فكر مزالي في الانفتاح على السوق اليابانية، فيما يتعلق بسيارات الإيسوزو، كيف ضغط المستعمر القديم من أجل أن تبقى بلادنا سوقا للسيارات الفرنسية، ونجح في ذلك.
إلى الآن، لم نعش النظام البرلماني كما يجب أن يكون، ليس فقط بسبب النظام الانتخابي الذي لا يسمح للحزب أو الأحزاب الفائزة بأن تحكم وتتحمل مسؤوليتها كاملة حتى يحاسبها الناخبون، وإنما أيضا بسبب التدخلات اللادستورية من قبل رئيس الجمهورية للهيمنة على السلطة التنفيذية وتجريد البرلمان من سلطاته في تعيين الحكومة ومحاسبتها. رأينا هذا في عهد الباجي قايد السبسي وهو ما يتكرر أمام أنظارنا اليوم على المباشر. والعجيب أن البعض لا يقف في وجه المتعدّي حتى نجرّب النظام البرلماني ونعرف مداه، وإنما يصبح الحل لديهم هو ممالأة التعدّي بمجاراة رئيس الجمهورية في ما يريده من توسيع سلطاته على حساب البرلمان، ومجازاته على تعطيل مؤسسات الدولة بإعطائه المزيد من السلطات.
في هذه الجلبة والضوضاء المتصاعدة والدعوة إلى نظام رئاسي، أكاد أسمع أولئك الذين تحكموا في بلادنا من وراء البحار، وفرضوا علينا شروطهم وجعلوا فخامته يسلم لهم ثرواتنا، بمجرد مكالمة هاتفية عن الصداقة العريقة بينهم وبيننا، أو بإصدار كتاب يفضح ما يدور في القصر الرئاسي، أو تحريك ملف حقوقي، وما أكثرها في ظل الحاكم الفرد.
نعم في الدعوة إلى النظام الرئاسي، أكاد أسمع أولئك الذين يريدون مخاطبا واحدا، يضغطون عليه فيستجيب لأمرهم، ويكرهون أن يروا شعبا يعبر عن إرادته.