تسريبات تلو الأخرى، وغرف مظلمة تفتح على أخرى، ومن خلال تسريبات مايا القصوري يتبين أن أكبر حزب في بلادنا من حيث النفوذ والتأثير هو حزب السفارة الفرنسية، هو المتحكم في من يحكم ومن لا يحكم، دون الحاجة إلى دخول انتخابات، وهو بالفعل أكبر قوة في البلاد دون ضجيج. بقدر ما يملكه السفير الفرنسي من قوة وحضور في الساحة العامة وخلف الستار.
نتذكر السفير السابق الذي مارس الاتصال المباشر، أكثر من أي سياسي آخر، وربما أفضل من بورقيبة نفسه، وهو يعرف تونس من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ليس من خلال التقارير وإنما من الزيارات الميدانية للمواقع السياحية والأثرية من تبربوماجوس إلى سبيطلة إلى الجم إلى لمطة إلى طينة... وهو يركب الجمل في صحراء نفزاوة، ويقوم بالدعاية للجبة والشاشية، ويلبس القشابية في يوم اللباس التقليدي، ويقوم بالإشهار لزيت الزيتون التونسي والبرتقال المالطي والكليمنتين ودقلة النور، ويحرص على نشر اللغة الفرنسية بتأسيس مدارسها ومراكزها، وهو رياضي يشجع النادي الإفريقي والترجي الرياضي والمنتخب الوطني لكرة اليد، ويحتفل بالمولد النبوي الشريف ويتناول العصيدة...
وأما الحزب، حزب السفارة، فقد كشفت مايا القصوري غرفة التفكير والتخطيط التي يحوز عليها، وكشفت قوة نفوذه وتأثيره في أعلى هرم السلطة، والأكيد أن للحزب أعضاء في الأحزاب القانونية، ودورهم ليس مجرد التجسس عليها ومعرفة ما يدور داخلها، وإنما يتمثل في توجيه القرار والتأثير، فتراهم في أحزاب مختلفة يتكلمون بتناغم، ويعبرون عن نفس المقترحات.
تفصيليا كشفت تسريبات مايا القصوري أن الحزب هو من أزاح إلياس الفخفاخ، وهو الذي اقترح هشام المشيشي. ولنا أن نسد الفراغات خلال ذلك حول انطلاق المناكفات والمماحكات في الحزام الحزبي للفخفاخ ومن كان وراءها، وصولا إلى صدور القرار بإقالته من حاكم قرطاج، وفي الأثناء نتساءل عن خطة إعداد المشيشي على مهل، وصولا إلى تسميته رئيسا للحكومة من خارج الأحزاب ومن داخل حزب السفارة.
لعل الصدفة وحدها جعلت قرارات رئيس الجمهورية تلتقي مع مقترحات حزب السفارة. دعنا من العودة إلى أن فرنسا لم تستعمر تونس وإنما قامت بحمايتها، الدعوات المنادية بتحوير النظام السياسي في اتجاه نظام رئاسي، تكون السلطة مجمّعة فيه بين يدي شخص واحد، هذا من شأنه أن يسهل على فرنسا التحكم فيه، حزب السفارة يريد هذا.