أن يلتقي الإسلاميون والقوميون في نفس الحكومة، فهذا تحوّل نوعي، كان الأمر يبدو مستحيلا، بل هو كذلك أولا لأن تونس لا تلعب دورا قياديا على الساحة العربية، وفيها القوميون لا يستطيعون أن يسبقوا بقية القوميين في اتخاذ مبادرة إزاء الإسلاميين، وإنما هم هنا يتبعون فقط ما يجري خارجها، والإسلاميون كذلك إزاء القوميين، وهؤلاء وأولئك يسلمون للساحة المصرية بدور القيادة والريادة، والساحة المصرية الآن بعيدة عن هذا، وهي بكل تأكيد لن تبرأ قبل عقود عديدة قادمة.
وثانيا لا أرى هنا بيننا من يملك الشجاعة أو الجرأة الكافية لكي يخرج عن الطريق المرسوم في مصر تحديدا منذ عقود. وثالثا مازالت القواعد تتغذى من تراث الصراع بين عبد الناصر والإخوان، لكأن من مبادئ هؤلاء وأولئك هو نبذ الآخر، تكفيرا أو تخوينا.
في تونس، صحيح أن التقاء الطرفين لم يكن للمرة الأولى، فقد التقوا تحت قبة البرلمان، في الدورتين السابقتين وفي هذه المرة أيضا. وها هي الحكومة بعد عسر ولادة، تشكل فضاء جديدا للقاء، وهذا حسب علمي لم يسبق أن حدث في أي بلد عربي آخر.
هذا من بركات الديمقراطية، وأحد تجليات الثورة. ولم يكن ذلك ممكنا قبلها، فمن أصول الحكم في بلادنا سياسة "فرق تسد"، والمفارقة أن مكونات المعارضة بمختلف ألوانها كانت تبدو حريصة على التنفيذ تلك السياسة، فترى صراعاتها فيما بينها تكون أحيانا أشدّ وأمرّ من صراعها مع النظام القائم.
فرق تسد هي نفسها سياسة تمارس في مستوى الوطن العربي، يتجسد ذلك في العلاقة بين الإسلاميين والقوميين. من وراءها؟ غير مهمّ أو أن البحث عنه مضيعة للوقت، والمهم هو أن هذه السياسة ترتكز على فرق تسد، بمعنى أن يكون لكل طرف منهما عدو داخلي، يشاغبه ويحاربه ويشغله عن المهام الاستراتيجية أو أي كلام كبير آخر، ويكون الصراع حد التنافي جزءا من برنامج كل طرف، يستهلك الطاقات ويبتلع المقدرات ويشغل الناس، فيبقون حيث هم جميعا.
يتقدم الآخرون تكنولوجيا، علميا، اقتصاديا، الخ الخ، ونقبع نحن حيث نحن. الصراع من هذا النوع مظهر من مظاهر التخلف. وهو بالتأكيد من نتائج التخلف وضمان لاستمراره بيننا. انظروا خريطة العالم، هل يوجد صراع شبيه بالذي بين الإسلاميين والقوميين في البلاد العربية؟ حتى الصراع بين السود والبيض في إفريقيا الجنوبية قد انمحى منذ عقود الآن.
أعطوني ما الذي حققته البلاد العربية بفضل هذا الصراع خلال ما يقرب من سبعين عاما؟ اختاروا أي مؤشر في التكنولوجيا أو في الاقتصاد أو التنمية أو العلم أو الصناعة أو -أقل من ذلك- في الأمية أو الصحة؟ ألا تدركون أنه صراع من تخطيط عدوّ ذكي، يحقق أهدافه من خلاله بفضلكم أنتم وبقدر حرصكم عليه؟
على أية حال، بقدر ما يستعر الأمر مع الاستبداد وفي ظله، فإن الديمقراطية تفتح آفاقا جديدة، وإمكانيات جديدة. هاهم الإسلاميون والقوميون يحكمون معا.