أكثرت يا قلبي، فماذا تروم؟"، هكذا خاطب الشابي قلبه في لحظة يأس ربما. ونعرف أن نهايته كانت بعد صراع طويل مع مرض القلب في المستشفى الإيطالي الذي يحمل اليوم اسم الحبيب ثامر. ما أثقل أن تستحضر ذلك وأنت في المستشفى نفسه، في غرفة العناية المركزة لقسم أمراض القلب. إلا أن ما قد يسري عليك حالات غيرك الأكثر تعقيدا.
في هذا المكان وجدت نفسك ماثلا من حيث لم تكن تنتظر أمام مشهد رائع وممتع. فقد دلفت إلى الغرفة عجوز تقترب من الثمانين، اتجهت مباشرة إلى السرير الذي يتمدد عليه شيخ في عمرها أو أكبر. لا يتحرك إلا بمساعدة، كانت تسأله فيجيبها بالإشارات، تسأله عن الدواء والطعام وإن كان في حاجة إلى أن يجلس أو يستدير على جنبه الأيمن أو الأيسر. ثم شرعت تؤاكله بنفس الملعقة واحدة له وواحدة لها. ومع كل ملعقة تتناولها هي تعبر له عن إعجابها بطيب الطعام ترغيبا له على الأكل كما لو أنها أمام طفل صغير، حتى فرغ وفرغت. عشرة. عندما طلب منها الطبيب الخروج حتى يقوم بعمله في الغرفة، لم تنس أن تنحني على سرير حبيبها العجوز وقبلته بحرارة، وخرجت مع وعده بأنها ستعود إليه بعد قليل.
هذا لا يحدث إلا هنا، في هذا المكان الذي ينبض كالقلب. إنه قسم القلب بمستشفى الحبيب ثامر بالعاصمة. لعله المكان الأجدر بأن نرسم على بابه قلبا كبيرا بقدر الحب الذي يستحق، وبقدر نبضات القلب التي يعيدها إلى انتظامها، وبقدر ما يدفعه من شحنات أمل في الحياة بعد الوصول إلى ما يقرب من اليأس. هذا القسم الذي يحتل الطابق الرابع لا تأبه له القنوات الفضائية ولا المحطات الإذاعية ولا سائر الإعلاميين، ولكنه مفخرة وطنية بفضل من فيه من طاقم طبي قدير.
قلب كبير لأطباء الشعب الذين يعمُرُون هذا المكان، دون أن ينتظروا جزاء ولا شكورا. طبيبات وأطباء بدرجاتهم وممرضات وممرضون، من أعمار متقاربة تقريبا، شباب، لا تكاد تميز بينهم في حرصهم ودأبهم على راحة المرضى في يقظتهم وفي نومهم وفي كل الوقت.
يأخذون عينات الدم للتحليل أو يقومون بتخطيط القلب أو تخطيط الصدى، أو قياسات الضغط أو الحرارة أو نبضات القلب، وصولا إلى قسطرة الشريان التاجي. هم موجودون هنا كأنه لا حياة لهم خارج الطابق الرابع، يعملون بكل الجد والمسؤولية والخبرة، وبكل تواضع أيضا. تلاحظ أنهم يعملون كفريق متكامل، متضامن، من رئيسة القسم البروفسور كريم إلى كل الأطباء معها وكل الطاقم الصحي. ملائكة الرحمة هؤلاء.
أطباء لو أرادوا ثروة أو شهرة لالتمسوها في غير هذا المستشفى العمومي، في المصحات الخاصة أو أنى يمّموا وجوهم خارج الحدود شرقا أو غربا. إلا أنهم لا يفعلون، فقد رضوا بأن يبقوا حيث هم، لأنهم على قناعة تامة بالعمل في الصحة العمومية، هم تعبير عن أصفى ما في العمل الإنساني. ألف تحية لهم فردا فردا، وتحية خاصة إضافية إلى الدكتورة خولة التي تابعتني عن بعد بمعارفها وصداقاتها وإنسانيتها. أنتم جميعا مفخرة الوطن.