في مفتتح هذه السنة يروج هذه الأيام على شبكات التواصل الاجتماعي شريط بأكثر من 15 دقيقة تحت عنوان "فيديو تاريخي نادر عن التعليم في تونس في فترة الاحتلال الفرنسي"، وهو للتدقيق شريط دعائي من إنتاج النظام الاستعماري، للترويج لما أنجزه خلال الفترة الاستعمارية وقد أعدته في وقتها مؤسسة INA أي المعهد الوطني للسمعي البصري. وترويجه اليوم ليس عملا بريئا ولا هو من أجل الوصول إلى الحقيقة التاريخية لأن الحقيقية لا تنطلي على المؤرخين.
من أوائل الكلمات الواردة في الشريط "أن الكثير وقع إنجازه" في ميدان التعليم، وهي نفس الجملة التي وقعت إعادتها في الأخير مع إضافة أن الكثير ينتظر الإنجاز. الحد الزمني الأول للشريط يرد في الشريط نفسه "منذ 1881..." أي منذ انتصاب الحماية، وككل الأشرطة الدعائية يتغافل هذا الشريط على أن المدرسة الصادقية الوارد ذكرها في الشريط قد تأسست قبل الاحتلال الفرنسي بست سنوات وتحديدا عام 1875.
كما لم يذكر الشريط كلمة واحدة عن التعليم السابق للاستعمار الفرنسي والذي يتمثل في التعليم الزيتوني والكتاتيب وفي المدرسة الحربية بباردو، بل أن الشريط بحكم أنه دعائي محض لا يشير إلى المجهود الذي بذله الأهالي خلال فترة الاستعمار الفرنسي من أجل نشر التعليم، والمتمثل في المدارس القرآنية التي بدأت منذ بداية القرن العشرين، واستمرت بعد ذلك وساهمت جمعية نشر التعليم بين البوادي والعروش في إيصالها إلى أبعد الأماكن، ووصل عددها إلى 186 مدرسة سنة 1954 بها 35 ألف تلميذا. علما وأن الشريط يتحدث عن 576 مدرسة ابتدائية دون أن يذكر التاريخ، وبالرجوع إلى حولية الإحصاء بالبلاد التونسية تصادف ذلك الرقم سنة 1950 أما إذا اعتمدنا عدد التلاميذ بالابتدائي فتكون سنة 1951. وتاريخ إنجاز الشريط إذن يكون سنة 1951.
من خلال الشريط، يفتخر الاستعمار الفرنسي بأنه أنجز حتى ذلك التاريخ في تونس 576 مدرسة ابتدائية، بها 132 ألف طفل. وفي التعليم التقني [اقرأ المهني] 65 مؤسسة بها 10 آلاف تلميذ، وفي التعليم الثانوي توجد 15 مؤسسة أوصلت سنة إنجاز الشريط 1200 تلميذا إلى الباكالوريا. يقول الشريط "الكثير وقع إنجازه".
ولأنه شريط دعائي فهو لا يشير إلى أن دافعي الضرائب التونسيين هم الذين وفروا أموالهم لبناء تلك المدارس، والصمت عن ذلك، تلتزمه كل الأنظمة المستبدة، والصمت عن ذلك هو بمثابة سرقة لتلك الأموال، والادعاء بأن الدولة هي التي وفرتها، وبما أن المتحكم في الدولة هو الاستعمار فالاستعمار هو الذي بناها.
ولأنه شريط دعائي لم يذكر بأن فرنسا الاستعمارية كانت تمارس سياسة عنصرية إزاء أهل البلاد، أولا لأنها ابتنت مدارس خاصة بالفرنسيين سميت المدارس الفرنسية، وجعلت المدارس الفرنكو عربية في المناطق التي يغلب فيها الأهالي وتوجد أقلية من الفرنسيين، ثانيا أن اللغة الفرنسية حتى في المدارس الفرنكو-عربية هي اللغة الأساسية أي أنها لغة التدريس ولا تحظى العربية إلا بثلث الوقت، والمكانة الثانوية في الامتحانات.
ولأنه شريط دعائي، فهو لا يتحدث عن مضمون التعليم الذي يريد أن يربط الأطفال بتاريخ فرنسا وجغرافيتها ورموزها وآدابها، حتى قوّلوهم "أجدادنا الغوليون".
ولأنه شريط دعائي، فهو لا يتعرض إلى نسبة التمدرس، نعم ذكر أن عدد التلاميذ في الابتدائي كان 132 ألف، وأضيف بأنه وصل 185 ألف سنة 1954. لكن كم يساوي هؤلاء بالمقارنة مع من هم في سن التمدرس؟ سكان تونس آنذاك كان 3.5 مليون نسمة، معناها أننا نجد تقريبا 5 تلاميذ على كل 100 ساكن. وبالنسبة إلى الأطفال الذين هم بين 6 و15 سنة، فإن هذه النسبة لا تتجاوز 19% سنة 1954 حسب نور الدين سريب.
معناها أن من بين 5 أطفال نجد 4 لم يذهبوا إلى المدرسة، وكانت هذه النسبة 12% فقط سنة 1949، أي قبل سنتين من إنجاز الشريط الدعائي كان طفل تونسي واحد يذهب إلى المدرسة من بين عشرة أطفال في سن الدراسة. مقابل نسبة 94% بين الفرنسيين الموجودين في تونس. ولكن الشريط الدعائي لا يبرز هذا الفرق بين النسبتين 12% و94% فتظهر لغير المتمعن وكأن نسبة التمدرس تقارب 100%.
بعيدا عن الدعاية فإن النتيجة الأساسية التي نعرف من خلالها مدى اهتمام فرنسا بالتعليم في تونس خلال الحقبة الاستعمارية هو نسبة الأمية، فقد كانت في حدود 92% سنة 1956. بمعنى إذا استعمرت فرنسا بلادنا من أجل نشر الرسالة التمدينية (mission civilisatrice) كما كانت تقول الدعاية الاستعمارية، فإن بقاء أكثر من 9 تونسيين في الأمية على 10، يعني الفشل الذريع للاستعمار. وهو ما يرتقي إلى أن يكون عارا بالنسبة إلى النظام الاستعماري الذي نشر الجهل ولا يمسح ذلك الأشرطة الدعائية ولا ألسنة المدح.