كان من الأنسب أن أكتب إنه مازال تحت صدمة الخروج من السلطة. نعم هكذا يخلّف ترك الكرسي ندوبا وخدوشا وحروقا وكسورا قد لا تبرأ قبل فترة تطول أو تقصر حسب الشخص، وحسب ما بقي له من أمل في العودة من عدمه.
لا تنْبَرُوا للدفاع عنه، فهذا الأمر ثابت عند غيره، مرضٌ -عافاكم الله- لا يعرفه إلا من جرّب السلطة وخرج منها، وهو بالتالي ليس استثناء حتى تتكلموا عن زهد عنده، بل أن كلامي يُعتبر دفاعا مستميتا عنه، وعن ماضيه، وعن صورته حتى لا تتفسّخ تماما.
وخلاف ذلك، هو ينزع كسوة الديمقراطي عنه، وما الذي يبقى عند الديمقراطي، إن نزع ثقته من كل شيء، البرلمان والقضاء والانتخابات والأحزاب والطبقة السياسية، ولم يبق له من أمل إلا في رئيس الجمهورية، قيس سعيد، وأمله فيه بالضبط في خرقه للدستور وإقامة محاكم استثنائية.
رأفة به، وبماضيه، أكرر مازال مصدوما، لكن الصدمة أخذت فيما يبدو أطول من الوقت المعهود.
خيبة أولى كافية..
تتذكرون قبل سنة من الآن، تلك الآمال العراض التي هبت بعد نتائج الانتخابات. لست حكيم زمانه ولكني كنت أرى من الحكمة استغلال الفرصة، لأن الموجة القادمة تكون لفائدة الطرف الآخر. ذلك أن تاريخ الثورات ينبني على مد وجزر، أو موجة بموجة، وهذا ما كتبته قبل سنة هنا أكثر من مرة.
سياسيون حزبيون أعماهم الوهج، فكبرت آمالهم الحزبية، ولم يكونوا يرون الخواء حولهم أو حتى فيهم. خطأ في كل الحسابات. وها هي موجة الطرف الآخر تهبّ منذ الآن. يقيني أن في داخل تلك الأحزاب من يعمل ضدها، ليس غباء –والأغبياء موجودون بطبيعة الحال- وإنما عن تخطيط، ومن أجل انتصار المنظومة القديمة. لا ترونهم، هذا شيء آخر. أنا أراهم بين صفوفكم.
ما حصل قد حصل الآن. وعجلة التاريخ لا يمكنها أن ترجع إلى ما قبل سنة. هذه المرة، يصبح المطلوب منكم أيها الذين ابتهجنا لانتصاركم في الانتخابات فخيبتم كل الظنون، أن تحذروا القيام بدور وظيفي. أخطأتم قبل سنة، فلا تستمروا في ارتكاب أخطاء انتحارية، لا تكونوا مجرّد وظيفيين من حيث تعلمون أو لا تعلمون. السياسي من المفترض أن يرى الأمور من عَلٍ، من فوق. لا تكونوا وظيفيين. لا تخيبونا مرة أخرى. لا تكونوا كمن يتصرّف علي وعلى أعدائي. صعب هذا؟
المثال..
يقفون وهم يصفقون للرئيس عندما يأتيهم في الجلسة الافتتاحية، ويتوقفون كما لو أن أيديهم جميعا يتحكم فيها زر واحد، ثم يجلسون جميعا في نفس اللحظة، بكل نظام، كما لو أنهم تدربوا على تلك الحركة، مثلما يتدرب راقصو الباليه.
وعند مناقشة القوانين يتكلم الأول فيعبر عن رأي البقية، ورأيه أو رأيهم لا يخرج عن التأييد، ولو وقع تصويت، فلا يخرج عن الإجماع إلا من كان على مرض بشهادة طبية أو في مرحاض المجلس الموقر. ذلك هو الإنموذج للبرلمان. برلمان بن علي.
أما البرلمان التعددي، فهو مثال للفوضى ولكل السلبيات، وهو المسؤول عن كل الأزمات، ولا مسؤول غيره، لا حكومة ولا قيس سعيد، ولا اتحاد الشغل ولا إعلام، ولا المؤامرات التي يتحدث عنها قيس سعيد. أنصتوا جيدا هم لا يقولون إجراء انتخابات مبكرة، وإنما يقولون حل البرلمان، هؤلاء ضد الديمقراطية، وليسوا فقط ضد البرلمان الحالي، لأن الكثير منهم لو أعيدت الانتخابات ما عادوا إليه أبدا. والآخرون كانوا بالتأكيد معجبين ببرلمان بن علي ويرونه هو المثال.