مونديال يعكس الجيوبوليتيك العربي، تجسم في ميادينه شعار "من المحيط إلى الخليج"، صدقا لا كذبا، نعم من محيط المغرب إلى خليج قطر. وقد قامت خلاله المنتخبات العربية بما لم يسبقها إليه الأوائل، انتصار على الأرجنتين، وانتصار على فرنسا، وأجمل من ذلك انتصارات على بلجيكا وإسبانيا والبرتغال معا. ثم خطوتان وكأس العالم.
نعم هذا المونديال مختلف وسيسجل له أنه وُوجِه بأكبر وأعنف حملة إعلامية في الغرب وصولا إلى دعوات المقاطعة، وتعابير التقزيم والسخرية، في هجوم كاسح لا يبقي ولا يذر. ولكن…
كذلك سيسجل هذا المونديال في التاريخ على أنه مونديال عربي بامتياز، نعم غابت عنه مصر، مع الأسف، وهو ما يواتي في الحقيقة مكانتها الآن في العالم، رغما عن الموقع الاستراتيجي، وعن الماضي المجيد، وعن الديمغرافيا، كما لو نهر النيل قد نضب تماما، فلا هبة بقيت ولا العالم هو اليوم وليد الهبات بدل العمل. العروبة لم يعد مركزها هناك.
هذا المونديال يختلف عن سابقيه تماما، والدولة التي تنظمه تختلف عن كل سابقاتها من حيث الحجم والتاريخ والديمغرافيا وحتى من حيث كرة القدم. وليس من العادي أن دولة عربية ليست في حالة حرب أو كارثة طبيعية، يمكن أن تشد أنظار العالم لمدة شهر كامل. كما لو أن حرب أوكرانيا قد توقفت تماما.
هذا المونديال بمثل ما وقع في قطر، يواتيه أن يظهر منتخب من بين "بلاد العُرب أوطاني" مثل المغرب، لقد مثل المغاربة كل العرب، ورسموا الفرحة والسعادة "من مراكش للبحرين". ولأنه كذلك، من أعماق الشعب، فقد تم رفع علم فلسطين في هذا المونديال وفي الشوارع لا علم المثلية، مثلما يراد.
بقي أن لهذا المونديال رسائل مشفرة:
أولاها، أنه يمكن أن يتحقق بالأرجل ما لم يتحقق بالخطب الرنانة والشعارات الكبيرة؛ وبالفعل فلم يسبق للمشاعر العربية في ظل دول الاستقلال أن توحدت مثلما توحدت في هذا الشهر.
ثانيها، أن العرب يستحقون مكانة أفضل في العالم مما نحن فيه. وما أمكن تحقيقه في كرة القدم يمكن أن يتحقق في الاقتصاد وفي العلم والتكنولوجيا. نعم، يمكننا أن نفيد الإنسانية جمعاء.
ثالثا، هذا المونديال وجه آخر للربيع العربي الذي حطّم القيود، وإن لم ينجح في بناء ناجز على المدى القريب فلا شك أن آثاره العميقة قد تمكنت من العقول. في انتظار المزيد…