الكثير من أحداث زماننا لن يغفلها التاريخ قطعا، فيها ما يضحك وفيها ما يثير السخرية، أو الفضول أو السؤال. خذ مثالا على ذلك بطاقة جلب الرئيس المرزوقي. هذه البطاقة يمكن أن تندرج ضمن مثل قديم ينتهي بعبارة "... في بر تونس، كل يوم تسمع غريبة".
أوليس من الغرائب القول بفساد القضاء بالحجة والدليل اللذين يستعرضهما أعلى هرم السلطة من جهة ومن جهة أخرى إصدار بطاقة جلب دولية للرئيس المنصف المرزوقي؟ لكأن المسألة تقنية بحتة، بحيث لم يعد هناك مجال أمام القضاء في الدول الديمقراطية إلا أن يستجيب، فقط لوجود بطاقة جلب قادمة من تونس…
ودون الخروج عن هذا المثل فالرئيس نفسه أمَر وزيرتَه أن تفتح تحقيقا قضائيا ضد المرزوقي، وقد استجابت لأمره بطبيعة الحال، وهذا من زاوية ما شأن سيادي محض، إلا أن ذلك لا يمنع كونه مثيرا للسخرية والتعجب في بلدان ديمقراطية تفرّق، منذ أكثر من قرنين، بين السلطات بما في ذلك التنفيذية والقضائية، فما بالك بإصدار بطاقة الجلب الدولية؟
ومادام هناك طلب على إشهاد التاريخ. فهذه الغريبة مما لا يُغفل عنه، خاصة والمؤرخون لم يعودوا مثلما كان أسلافهم في الأزمنة الخوالي يحومون حول صاحب السلطة يتمعّشون من موائده وعطاياه، كما كان يفعل الشعراء، ويزيّنون أفعاله ويلعنون ضحاياه من المنتفضين أو أتباعهم أو ممن هم دونهم. فأولئك المؤرخون يشبهون اليوم بعض من يجلسون أمام المصدح أو الكاميرا، لا أكثر، يتحكم فيهم صاحب السلطة بالتأكيد، يوجههم ويرشيهم أو يهددهم ويتوعدهم. يكفيه أولئك، وما يهمّه في ما يكتبه المؤرخون.
التاريخ اليوم يسع الجميع، حكاما ومحكومين، ولا توجد فيه "مزابل التاريخ" التي يتصوّر البعض أنها أُعدّت للمغضوب عليهم عند الحكام، ونعرف أن من كانوا يُعتبرون في زمنهم عصاة مارقين يُحظون اليوم بالإجلال والتكريم، علي بن غذاهم نموذجا.
كما لا توجد في التاريخ صُروح أو حدائق خاصة بالسلاطين الميامين، وقد ذَكَر منهم في صفحاته حكّامًا تسبقُ اللعناتُ أسماءَهم على غرار أبي عبد الله الحسن الحفصي الذي باع البلاد للإسبان أو الصادق باي الذي أمضى على تسليمها للفرنسيس أو مراد بوبالة السفاح الدموي. ولو كانت في التاريخ مزبلة لضمّت رُفات هؤلاء، دون أن يدافع عنهم من كانوا عندهم متزلّفين أو متمعّشين. المتزلفون أنفسهم لن يغفل عنهم التاريخ، وعن أفعالهم.