فيض الوطنية الذي نلاحظه عند البعض اليوم ومنذ 14 جانفي، لو كان عُشُره موجودا عندهم في الزمن النوفمبري لرأيناهم زعماء كبارا يصوغون الخطط والبرامج ويستقطبون الناس في أحزاب من أجل رفعة الوطن. لرأيناهم في أحزاب وتنظيمات سرية أو في مظاهرة أو يوزعون مناشير سرية، ويدفعون ضريبة ذلك سجونا ومنافي أو بطالة وتجويعا، بين العزل الاجتماعي وحصار القوادة والمخبرين، لرأيناهم على صدر صفحات الجرائد الصفراء تُنتهك أعراضهم وكرامتهم وتُداس حقوقهم، ولا يُسمح لهم بحق الرد ولا حق الكلام.
لو كان الفيض هو الفيض الذي نراه اليوم، أو حتى عُشُره، لظهروا أو عرفوا في الزمن النوفمبري ضمن عامة المهتمين بالشأن العام، يتابعون الأحداث ويألمون لما يألم له مواطنوهم أو أمتهم، لكانوا في منظمات حقوقية أو في نقابات، أو حتى في أحزاب كرتونية يكتبون تحت الرقابة الذاتية، ولعل التاريخ يعذرهم بالحدود التي وُضعت والتي وقفوا عندها.
الوطنية كالبذرة الصالحة تتحول مع الرضاعة إلى نبتة تنمو مع كل صباح جديد، وتمتد جذورها في الكيان، وتبسُق كلما تقدم المرء في العمر، فلا تذوي ولا تنحني ولا يمكنه أن يعيش بدونها، أو يستظل بغير ظلها. وهي ليست من الأعضاء الاصطناعية القابلة للزرع في من فاته زمن الإنبات، ومن فاته التاريخ، لا يمكن أن يستعيض عنه بفيض من الكلام. لا يمكن أن يغطي الفراغ بشعارات جميلة قد تنطلي على البعض بعض الوقت، ولكن تذروها الريح في أول محطة.
يمكن أن لا يعجبك المرزوقي، يمكنك أن تلعنه صباحا مساء أو تشهّر به مثلما كانت تفعل الصحف الصفراء في الزمن النوفمبري القميء، ولكن لا يمكن شطب تاريخه الكبير في النضال بالفكر والقلم ضد الاستبداد والتخلف والاستعمار والتبعية، وفي النضال الميداني من أجل حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية، ومن أجل موقع للعرب في عالم اليوم.
وقد دفع ضريبة ذلك سجونا، ومنافي، وبطالة، وتشويها. آخرون كانوا خارج التاريخ تماما، لم تكن اهتماماته تهمّهم ولا أطلوا من النوافذ الرحبة التي كان يفتحها من أجل مستقبل مشرق. كانوا تائهين