كانت فرنسا تبرر استعمارها لبلادنا ولبلدان أخرى بـ"الرسالة التمدينية" (mission civilisatrice) التي جاءت لتنشرها، وبقطع النظر عما يكشفه هذا الشعار من عنصرية ومركزية أوربية، فقد سمحت فرنسا لنفسها وهي ترفعه بأن تمارس مختلف الاعتداءات على بلادنا أرضها وأهلها ومقوماتها وهويتها وماضيها وحاضرها.
ولم يتسن إلى حد الآن القيام بجرد لتلك الحقبة بما فيها، وإن كانت فرنسا حاولت سنة 2005 أن تفرض في مدارسها الاعتراف "بالدور الإيجابي للحضور الفرنسي في ما وراء البحار وخاصة في شمال إفريقيا..."، واعتراف الأمة بـ"العمل الذي أنجزته فرنسا في مقاطعاتها السابقة بالجزائر والمغرب وتونس والهند الصينية..."، لولا وقوف مؤرخين وقانونيين فرنسيين أنفسهم.
مع الملاحظ أن ما يدخل ضمن ذلك "العمل" من طرقات وسكك وموانئ ومدارس، وبقطع النظر عن أنها جعلت من أجل الاستعمار ومزيد الاستغلال، إنما تمت بأموال دافعي الضرائب في المستعمرات. لكن السؤال الأساسي هو مدى استفادة التونسيين. والمؤشر الذي لا تخطئه عين عندي هو نسبة الأمية.
بعد 75 سنة من الاستعمار، بلغت هذه النسبة 92%، بمعنى:
- أن فرنسا لم تسع حتى إلى نشر لغتها بين التونسيين رغم أن الفرصة كانت سانحة لها خلال ثلاثة أرباع القرن، وسعت فقط إلى استقطاب أقلية أغلبها من أبناء الأعيان والبرجوازية المحلية.
- أن "الرسالة التمدينية" التي كانت تتشدق بها فرنسا، فشلت ولم تتحقق، وبالتالي لم تشرق "الأنوار" الفرنسية في ربوعنا ولم تتحقق على أرضنا "الأخوة والحرية والعدالة" التي بشرت بها الثورة الفرنسية.
بعد الاستقلال، إذن انتشرت اللغة الفرنسية، بواسطة المدرسة العمومية التونسية ومساهمة دافعي الضرائب التونسيين من خلال ميزانية الدولة التونسية.
في إطار زخم الاستقلال والتحرر الوطني انتبه محمد مزالي إلى أهمية أن يكتمل الاستقلال السياسي بالتحرر الثقافي، مثلما قاد أحمد بن صالح مشروع التحرر الاقتصادي. إلا أن صاحبي المشروعين وقعت محاربتهما حتى يخرجا من دائرة النفوذ، وتبقى بلادنا في دائرة التبعية الاقتصادية والثقافية وبالتالي السياسية.