رجاء فرحات يتكلم عن بورقيبة، فيظهره شبيها بالآلهة. كاهن ومعبود. تصدر حركاته ومواقفه عن الحكمة الخالصة، وعن العقل المحض. الأكيد أن الكثيرين ينظرون إلى ما يقوله وكأنه الحقيقة المطلقة. ويتلذذون بما يقوله ليس لأنه الحقيقة، وإنما لأنهم في تكوينهم ووجودهم عُجِنوا بتلك المادة، البروبغندا، ولا يقفون عند ذاك وإنما يزيدون بأن يستدلوا بأن صاحب الكلام ابن معارض كبير لبورقيبة، وهذا ما يزيد رجاء فرحات في نظرهم رفعة واعتبارا ويجعله حجة.
نعم التاريخ لا يسقط من صفحاته الوطني والنقابي والمربي الكبير الصحبي فرحات، أحد قيادات الحزب الدستوري القديم والاتحاد العام التونسي للشغل في نفس الوقت، والذي مات في سجن بورقيبة، أي في سجن دولة الاستقلال التي ناضل من أجلها. هل مات تحت التعذيب؟ لست أدري. أم بسبب حرمانه من الدواء، هناك من يؤكد ذلك. لكن الأكيد أن ظروف السجن كانت قاسية إلى درجة أنها تؤدي إلى الاستشهاد. والنسيان هنا موضوع يستدعي التحليل.
كلام رجاء فرحات بالطريقة المسرحية التي يتقن أداءها، تجعله شبيها بما كان يلقيه الشعراء في العكاظيات التي كانت تنعقد للغرض، ومثلما كان يتغنى المداحون في الأذكار الصباحية، وإسماعيل الحطاب في "قافلة تسير"... هو أيضا لم يكن خارج القافلة. وإلا فما هي مواصفات من يعين مثلا في ذاك الزمان مديرا لمهرجان قرطاج الدولي لثلاث سنوات؟ مكانة تجعله اليوم يعود إلى بورقيبة لينحت الصنم الذي يراه مناسبا، دون أن يغادر الزاوية التي جلس عندها يومها، وعلى أية حال فهو ليس معارضا حتى يجلس في الزاوية المقابلة، ولا هو باحث يجتهد في أن يفتح كل الزوايا. ولكن -مع الأسف له- فقد جاء أمره متأخرا جدا، بعد فوات الأوان.
فمثل ما نسمعه منه يجعلنا نتساءل إن كان قد اصطف إلى جانب بورقيبة يوم ألقي به في السجن. بل هل دافع عن حقوقه الدنيا حتى الحق في المشي في الشارع؟ بل هل سعى إلى الاطلاع على حاله طيلة ما يقرب من ثلاث عشرة سنة؟ هذه الأسئلة لا تهم رجاء فرحات لوحده وإنما تهم غيره ممن يقولون اليوم بأنهم أبناء بورقيبة أو أنهم بورقيبيون جدد.
نحن نعرف أن رجاء مثلا خيّر يومها طريقا أسلم. وهو ما أمكنه أن يعين على رأس التظاهرات الكبرى التي راهن عليها "صانع التغيير" للتسويق "للتحول المبارك" وبلد "الفرح الدائم"، وفي تظاهرة "تونس 3000 سنة" ودون المقارنة بمكانة صانع التغيير المحورية، نتذكر أن صليحة احتلت مكانة أهم من بورقيبة. الأمر نفسه في "موسم تونس الثقافي بفرنسا"، و"خمسينية الاستقلال". كذلك رجاء فرحات نفسه هو الذي أشرف على الاحتفالات التي صاحبت انتخاب بن علي 2009... وكان بعد ذلك من المناشدين.
وحينئذ فأن يعود اليوم إلى بورقيبة ليرفعه إلى أعلى عليين، فليس إيمانا منه بما يقوله حوله، وإنما ليتفصى من ماضيه في خدمة الدكتاتورية النوفمبرية، ورغبة منه في الاستمرار في لعب دور مماثل.