جرت خلال أسبوع تقريبا أحداث تبدو متباعدة ولا صلة بينها، تتمثل في: 1- زيارة السفير الفرنسي لمقر اتحاد الشغل (30/11). 2- ملاقاة السفير الفرنسي لراشد الغنوشي بحضور علي العريض (8/12). 3-بيان مجموعة السبع مع الاتحاد الأوربي (9/12). 4- الخطاب الهادئ الفريد والوحيد من نوعه لقيس سعيّد (9/12).
الحقيقة أن هناك خيطا ناظما لتلك الأحداث، بل كأنها تكشف عن حوار غير مباشر بين أربعة أطراف لو جاز أن يعبّر عنها أشخاص فهم على التوالي: الطبوبي، والغنوشي، وسعيّد، وParant السفير الفرنسي. الأول باعتباره الأمين العام لاتحاد الشغل، المنظمة الوطنية الأكثر تأثيرا وتجربة وحضورا في السياسة، والثاني باعتباره رئيس حركة النهضة الحزب الأول في البلاد.
أما قيس سعيّد فباعتباره الماسك بزمام الأمور. يبقى أن الوسيط والعنصر المحوري في السعي بين تلك الأطراف/الأشخاص هو أندري باران السفير الفرنسي. وتدخله يعكس الحضور الوازن لفرنسا في الساحة التونسية ليس فقط سياسيا وإنما أيضا اقتصاديا فضلا عن ثقافيا، وقد جاء تدخله بعد أن بلغ الانسداد السياسي منتهاه. لكن يبدو أن السفير الفرنسي لا يمثل بلاده فقط، وإنما جاء للتكلم باسم مجموعة السبع، والأهم من ذلك أن تدخله يعني أنه الضامن للنتائج التي تحصل من الحوار -بقطع النظر عن شكله مباشر أو غير المباشر- بين الأطراف المعنية به.
الحدث المُرتّب أولا وهو اللقاء السفيري النقابي، نتذكر أن ما تلاه هو الإعلان من داخل اتحاد الشغل عن "الخيار الثالث" (5/12)، وهو ما شكل إنذارا في اتجاهين، الأول قيس سعيّد كتعبير لاستعداد الاتحاد للتباعد عنه بعد أن مدّ إليه طويلا يديه للتعاون والإسناد. الإنذار الثاني في اتجاه حركة النهضة التي قد ترى في الخيار الثالث محاولة لدفع قيس سعيد لمواجهتها هي لضمان مساندته من الاتحاد بدفع وتوجيه من الأطراف النقابية الإيديولوجية (وطد وقوميين).
الحدث الثاني، وهو مقابلة السفير للغنوشي، ليس باعتباره رئيس البرلمان، وهذا في حد ذاته يتماشى مع قيس سعيد الذي جمّد البرلمان، وإنما باعتباره رئيس حركة النهضة وقد حضر إلى جانبه نائبه علي العريض الذي لا يشكل مجرد شاهد على ما دار في اللقاء وإنما هو ضمان لاستمرار ما يقع الاتفاق عليه حتى في غياب الغنوشي. الأكيد أن السفير جاء بوعود وبضغوط. في باب الوعود قد يكون على رأسها عدم حل حركة النهضة كما يتمنى أو يدفع إلى ذلك لإرباكها بعض "الاستئصاليين". وأما الضغوط فقد تتعلق بالدستور ومن ضمن ذلك دفعها للتنازل بخصوص النظام البرلماني إلى رئاسي، بما يستجيب لرؤية قيس سعيد -لغايات شخصية- ولفرنسا نفسها التي تفضل هذا الشكل من النظام الذي يسهل عليها تمرير شروطها وتحقيق ضغوطاتها، خلافا للنظام البرلماني.
الحدث الثالث هو البيان السباعي الذي أمضى عليه مع السفير الفرنسي بقية مجموعة السبع زائد الاتحاد الأوربي، وهم الشريك الاقتصادي الأول لبلادنا وهم خاصة مجموعة الدائنين، وهم الذين يملكون المفتاح للتواصل مع المؤسسات المالية الدولية. وقد أشاروا في بيانهم إلى "حماية الفئات الأكثر ضعفا"، وإلى "احتياجات الشعب التونسي"، و"دعمنا الشديد للشعب التونسي" وهو ما يترجم على الحرص على الجانب الاقتصادي والاجتماعي الذي قد يشكل عنصر انفجار للوضع دون أن ينتبه إلى ذلك معظم الفاعلين على الساحة التونسية. كما تضمن البيان دعوة إلى "الحوكمة الفعالة والديمقراطية والشفافية"، و"احترام الحريات لجميع التونسيين" و"إشراك كافة الأطراف المعنية"، و"عودة سريعة لسير عمل مؤسسات ديمقراطية بما في ذلك برلمان منتخب". بمعنى عدم العودة إلى ما قبل 25 ولكن أيضا عدم المضي في البناء القاعدي، والمضي في المسار الديمقراطي من خلال انتخابات بمشاركة الجميع.
وأما الحدث الأخير فيتمثل في الخطاب الذي يمكن نعته بالتصالحي لقيس سعيد والذي يتناقض تماما مع مجموعة الخطب التي ألقاها حتى الآن. وقد حث فيه على "عدم الانسياق وراء الإشاعات من أي طرف كان"، في إشارة ربما إلى ما تكلم فيه الإعلام وسياسيون حول إجراءات راديكالية قد يتخذها في 17 ديسمبر، ومن ضمنها حل حركة النهضة.
وهذه رسالة موجهة إلى طرفين اثنين، أولهما النهضة التي تصبح كغيرها معنية مباشرة بدعوته "إلى الوحدة بين التونسيين" و"أن تونس لن تتقدم إلا في ظل قبول الآخر والتنافس النزيه" بين جميع الأطراف. و"أن الاختلاف في التصورات والآراء لا يعني انعدام التعايش، وعلى أن الدولة تتسع للجميع". وأضاف إلى ذلك في نفس الخطاب إعرابه " تمنياته بالشفاء العاجل لجميع المصابين في حادث الحريق الذي جدّ" بمقر حركة النهضة. كما أن الرسالة موجهة إلى مجموعة السبع من خلال الإشارة إلى "التنافس النزيه" أي الديمقراطية وأن "الدولة التونسية واحدة وقائمة بمؤسساتها وستظل آمنة وقوية وتعمل وفق القانون" و"إلى أن تونس... بحاجة إلى مشروع اقتصادي واجتماعي يلبي تطلعات الشعب" وهو الجانب الذي تضمنه بيان السبع. بمعنى أن الخطاب تضمن ردا إيجابيا على ما تعهدت به النهضة بضمانة السفير الفرنسي ومجموعة السبع.
يبقى أن الأيام القادمة كفيلة بالتحقق من ذلك.