لم يكن وراءه جهاز حزبي قوي ولا دون ذلك، ولم يكن له لوبي مالي ولا جهوي ولا حتى مهني، ولكنه كان شعبا، بالمعنى الرمزي، حيث واختار في لحظة كالحة قاتمة أن يتكلم وحده، فكان ناطقا باسم الجميع، الشعب، فقام بما تقاعس أو جبن عن فعله الآخرون أو خشي من تبعاته أو لم ينتبه إليه غيره، حيث تكلم مباشرة في عيني المستبد، وليس في منشور ينتهي بصاحبه إلى السجن بتهمة توزيع مناشير ونشر أخبار زائفة. حيث كتب رسالته الشهيرة التي وجهها مباشرة للزعيم الاستبداد معبرا له فيها عن "سخطي ورفضي للأوضاع المريعة التى آل إليها القضاء التونسي"، وتجريد القضاة من "الاضطلاع الكامل بدورهم في حماية الحقوق والحريات". داعيا المخلوع إلى "رفع الوصاية عن القضاء وعلى كل مؤسسات الدولة على نحو يسمح بإتاحة ممارسة الحريات الدستورية للجميع لصياغة التغيير الحقيقي الذي يتطلع إليه شعبنا وتقتضيه مصلحة الوطن". وهو بذلك لم يخش أن يعبر عن تطلعات الشعب ومصلحة الوطن. فكان شعبا، كما كان إبراهيم أمة.
مختار اليحياوي حتى بعد وفاته استطاع أن يجمع خلف نعشه جميع الأطياف ممن لا يكاد يجمع بينهم جامع لا قضية كبرت أو صغرت ولا هيئة ولا حتى مكان عام. جاؤوا إلى جنازته، وكأنهم يذكرونه بلحظة جمعتهم معه وكان قلادة عقدهم يوم التقوا في إضراب جوع ذات أكتوبر 2005، وكانوا يومئذ صفا واحدا في وجه الدكتاتورية، قبل أن تفرق بينهم المصالح الحزبية وأوهام الإيديولوجيا وحتى الأحقاد الراسخة.
جاء لتوديعه إلى مثواه الأخير الرئيس منصف المرزوقي وأحمد المستيري وراشد الغنوشي وحمة الهمامي ومحمد عبو وسمير بن عمر وعبد الرؤوف العيادي وعبد اللطيف عبيد وخليل الزاوية وعدنان منصر وراضية النصراوي... ووزراء كثيرون من الترويكا ومن التأسيسي ومجلس نواب الشعب، حضر القضاة والمحامون والفنانون والمثقفون والجامعيون والأطباء، بمعنى دائرة واسعة من الحضور ممن كانوا في السلطة ومن كانوا في المعارضة، ومن لم يكونوا هنا أو هناك من حزب العمال والنهضة والتكتل والجمهوري والتيار والمؤتمر ووفاء والحراك...
وإلى جانب كل أولئك حضر الغائبون، ممثلو المنظومة القديمة من عادوا إلى الحكم ومن يتحركون في الكواليس، لم يحضر من يمثل الحكومة أو مجلس نواب الشعب أو من يمثل رئيس الجمهورية. فقط محسن مرزوق بين حراسه الطوال جاء بعد أن انتهى موكب تقديم التعازي وغادر أغلب الحاضرين.
الواضح من ذلك أن المنظومة تلك لم تغفر لمختار اليحياوي نضاله ولا شجاعته ولا جرأته عليها في زمن عزها، ولم تنس له الرسالة التي كشف فيها أساليبها في إخضاع المؤسسة القضائية وسائر المؤسسات والدعوة لتحريرها. ولم تغفر له مشاركته في إضراب الجوع الذي أفسد على الدكتاتورية "عرس" القمة العالمية لمجتمع المعلومات. ولم تنس له نضاله الحقوقي في عدة هيئات. بمعنى أنها تشعر بأنه لا يستوي معها في نفس الصف. ولم يكن لديها بالتالي موجب للحضور. وغيابها يؤكد أنها وفية لنفسها ولجوهرها.