لم نعد نسمع منذ مدة بعمليات إحباط هجرات سرية، ولا غرق مراكب للحرقة، ولا عادت تهتم الكاميرات بنساء يولولن متسائلات عن مصائر أبنائهن المجهولة. هذا موسم الهجرة إلى الشمال. في تسامح يبدو ظاهرا للعيان، كما لو أنه يعكس ردود أفعال متشنجة على مواقف صارمة. والنتيجة أن المئات أو الآلاف ينجحون في الوصول إلى الضفة الأخرى.
عندما تسجد الأم شكرا لله على وصول ابنها إلى لامبادوزا، وتتلقى المكالمات بالتهاني الحارة من الأجوار والأقارب، مهنئين بنجاحه في عبور البحر بعيدا عن أعين الحرس البحري. تهاني تضاهي أو تفوق تلك التي يتلقاها الناجحون في الباكالوريا، ولا غرابة فمن بين الحراقة ناجحون في الباكالوريا، وما بعد الباكالوريا، وفي الماجستير، في أكبر ضربة للنظام التعليمي، وأكبر من ذلك هو دليل على فشل الدولة وسياستها الوطنية، ويشكل أكبر خسارة للبلاد عامة.
والغريب أن هناك من لا يرى ذلك، بل ويشارك ما قد يتكلم عنه الأوربيون من مشاكل، ولا يرى فيها ما تسببه لبلداننا من خسارات لطاقاتها المتجددة.
الحراقة هم المغامرون، يرتمون في البحر، إما الموت أو النجاة، ومن يضحي بحياته مثلهم، فهو أقدر على مواجهة مصائب الحياة، ومثل أولئك هم الطاقة التي تشغل ماكينة الأوطان. الحراقة هم شبيهون بأولئك الذين اكتشفوا القارة الأمريكية وعمّروها ووصلوا بها إلى حيث هي الآن، ولأنهم كذلك فإنهم رحيق البلاد، يغادرونها أفواجا وأفواجا. قد ينجحون أو لا ينجحون في مغامرتهم، ولكن نجاحهم هو دليل على فشل وطن كامل. فشل في السياسة الوطنية على امتداد عقود بدءا من تاريخ الاستقلال، وهل يمكن الحديث عن نجاح بلاد لم تستطع أن تستثمر في أبنائها، فصرّفتهم عمالا بالخارج، وأدمغة مهاجرة، وحرّاقة، وإرهابيين في مواقع التوتر؟
بلد يفكر في بعض أولئك فقط كمصدر للعملة الصعبة، وفي البعض الآخر كموضوع للفخر، أو كوسيلة لابتزاز بلدان الاستقبال، أو كقضية أمنية، أو للتخفيف من الضغط الديمغرافي أو للتخفيض في نسبة البطالة، مثل هذا البلد لم يعد جديرا بالاحترام، بعد أن هاجرت طاقاته بجوازات سفر أو بحرق وثائق السفر.