وبعد أن وضعت الحرب أوزارها بإسقاط حكومة الجملي، يمكن اليوم العودة إلى مناقشة مفهوم الاستقلالية الذي أثير حوله لغط كثير. المستقل هو غير المنتمي إلى حزب، وأما المنتمي فيجب أن يكون منخرطا فيه بمعنى يحمل بطاقة انخراط فيه أو هو يتحمل المسؤولية في أحد هياكله أو قام بالدعاية له أو مثّله أو تكلم باسمه في نشاط ما.
غير ذلك كيف يمكننا أن ندلل على انتماء شخص ما إلى حزب معين؟ هل يمكن اعتبار شخص ما منتميا إلى حزب لمجرد أنه سبق له أن انتمى إليه ذات يوم؟ بمعنى هل يمكن أن يكون الانتماء الحزبي أبديا، ولا يمكن التراجع عنه؟
للتذكير هنا فبوليس بن علي وميليشيات الشعب الترابية والمهنية، كان له مفهومها للانتماء إلى التنظيمات والأحزاب التي يطاردها النظام، فيكفي عندهم أن تتوفر ما يعتبرونه قرائن، مثل نوعية الكتب التي يقرأها المتهم، أو جلوسه بمقهى مع شخص متهم بالانتماء، أو تكون زوجته محجبة فيعتبر ذلك قرينة على انتمائه إلى النهضة مثلا، ويصدر القضاء حكمه الأقصى بتهمة الانتماء.
في الأيام الماضية عاد بنا الجدل حول استقلالية الحبيب الجملي وعدد من وزرائه إلى مناقشة المسألة من جديد، وقد اتفق عدد كبير من السياسيين الثوريين والمضادين للثورة على السواء، ومن تأثر بهم من إعلاميين ومدونين ومواطنين عاديين، على التشكيك في استقلالية الحبيب الجملي، ومن معه، وأنهم -خلافا لتصريحاتهم- ينتمون إلى النهضة، في نقاش كاد يصل إلى مستوى القرائن التي كان يجمعها بوليس بن علي وميليشيات التجمع.
بمعنى أن النقاش في عهد الحرية عوض أن يساهم في الرفع من الوعي السياسي، يتدنى به إلى مستوى التقارير والمذكرات الأمنية. والمثير للسخرية أن يساهم في ذلك قياديون ذوو وزن واعتبار. لا، ويبنون على ذلك مواقفهم بكل ثقة ويقين.
كان من المفترض في واقع سياسي جديد أن التصريحات السياسية تعتبر تصريحات على الشرف، بحيث يُصدّق صاحبها، وكفى. وهذا حتى نرتقي بالعمل السياسي. وأما التبربيش في الملفات القديمة وجمع قرائن مثل التي كان يجمعها البوليس في عهد الاستبداد فهو مدعاة للسخرية ممن يقومون بها.