منذ سنوات عديدة تعودت على أن أسافر إلى الجنوب ليلا، حتى أغالب طول المسافة بالنوم أو ما يشبهه. ولكن هذه المرة اضطررت إلى السفر نهارا، فكانت رحلة رائقة بالفعل. ها هي تونس تستعرض نفسها أمامي تحت أشعة الشمس، مشاهد تمتد إلى الأفق بلا انقطاع على ما يقرب من خمسمائة كيلومتر، جبال ووديان وسهول ووهاد، حقول وغابات تنتظم صفوفا صفوفا، وحياة تنبض…
لم أكن محملا بآلة تصوير، ولا أنا على متن سيارة خاصة حتى أتوقف لأتملى تلك الألوان التي لا يغشاها دخان العاصمة، أو أوثّق بعضا من تلك المشاهد التي تتتالى بسرعة، كما لو أنك أمام شاشة عملاقة. نحن هنا بعيدا عن الزيف والتزييف، بعيدا عن ازدحام السيارات، والنفاق والكسل.
هنا تونس كما كانت دائما ومنذ زمن بعيد. مشاهد قد لا تختلف كثيرا عن تلك التي مر بها التجاني منذ قرون. بل لا تكاد تختلف عن المشاهد التي نراها في فسيفساء ضيعة السيد يوليوس التي تعود إلى أواخر القرن الرابع للميلاد. راعية صغيرة تحضن حملها الوديع. طفل ينحني ليلتقط حبات الزيتون، ومشاهد غيرها تتكرر منذ أجيال.
ضمن تلك المشاهد النابضة، يبدو حضور النساء مكثفا. لكنهنّ هنا مختلفات عن النساء في مقاهي العاصمة الفاخرة، بأناقتهن وألوانهن وأزيائهن وعطورهن وتغنجهن. هنا الراعية ترقب شويهاتها. والحطابات يكدن يغبن تحت الحزم التي يحملنها. والفلاّحات وهنّ يجمعن الفلفل أو آخر حبات الطماطم العالقة بشجيراتها، أو يجنين الزيتون بأيديهن العارية.. المرأة في أبهى صورها تلك التي تعمل وتجد من أجل لقمة عيشها والعيش في كرامة. بما يجعلك تقرر أنه من الآن فصاعدا يكون لحبات الطماطم مذاق آخر، ولحبات الزيتون المملح كذلك.
آخرون مروا من هنا وتركت فيهم تلك المشاهد آثارها. خذ مثلا الطاهر الحداد الذي من المؤكد أنه مسح تلك المشاهد جيئة وذهابا إلى مسقط رأسه بالجنوب، كما أنه سار في طرقات الحاضرة الضيقة. وأمكن له أن يقارن بين النساء هنا وهناك. بين المرأة التي تخرج مرتين طيلة حياتها إحداهما إلى القبر، وهذه المرأة في هذه الأماكن المفتوحة على الأفق. بين متعثرات في سفاسرهن البيضاء، وأخريات في هذه المسالك كما هن في واحة الحامة، حيث كانت المرأة كما رآها تفلح الأرض، وتغرس، وتزرع، وتسقي، وتحشّ، وتحطب، وتحلب، وترد الماء، وتنسج، وترحي... ولم يكن يحول دون تلك الأعمال حائل من عادات أو لباس أو نصوص، بل كان من تقاليدها أن تقوم بكل ما كانت تقوم به من أعمال. خلاف ما كانت عليه المرأة في الحاضرة. ولعله من خلال المقارنة ولدت لديه فكرته الكبيرة حول تحرير المرأة. فكان كتاب "امرأتنا".
المرأة التي رأيتها في رحلتي نحو الجنوب وهي تنحني على شجيرات الطماطم أو تلك التي كانت تتعلق بغصن الزيتون لتجمع حباته، نتعلم منهما أن العمل وبذل الجهد طريق الكرامة. وإذا كان العمل هو الحرية بالنسبة للفرد فهو أيضا ضمان لحرية الأوطان وازدهارها.