هذه الأرض ليست ككل الأراضي الأخرى، لها تاريخها المختلف، ولها جغرافيتها، ولها تضاريسها وطابعها الخاص. وهذا من الأكيد لا يفهمه أولئك الذين يريدون أن يستوردوا نماذج للتسلط، عن طريق الانقلابات العسكرية مثلا، دعوتهم هذه بالذات زيادة على أنها ماضوية، فهي تقيم الدليل القاطع على أن أفكارهم دخيلة على هذه الأرض. تكشف أنهم ربما يعرفون أشياء عن أراض أخرى، لكنهم لم يقرؤوا تاريخ هذه الأرض، لم يعرفوا أن هذه الأرض روضت الجيش الإنكشاري، وروضت حتى جيش الاحتلال الفرنسي، وبينهما لم يستطع الإصلاح العسكري لأحمد باي أن يستمر طويلا فوقع التراجع عنه.
هذه الأرض، صيّرت رتبا عسكرية مثل الباشا والداي والآغا مجرد رموز نياشين فخرية ليس أكثر، وجعلت من ضباط الجيش الفرنسي بعد الاحتلال يتحولون إلى باحثين البعض في الأركيولوجيا والبعض في الإثنوغرافيا والبعض في التاريخ. وأما الجيش التونسي فقد تأسس على قيم الجمهورية منذ تأسيسه وسيبقى كذلك، هذه طبيعة الأرض هنا.
فلا يمكن أن يكون انقلابيا، وتاريخيا لم يكن انقلابيا، والكشف في 1962 عن المؤامرة الانقلابية قبل حتى أن تتحول إلى محاولة، يندرج تماما ضمن هذا المنحى، إذ كشف الكشف عنها أنه لا يمكن أن يحدث عندنا انقلاب حتى عندما كانت الانقلابات مثل العادة الشهرية في الشرق العربي، طبيعة جيشنا تختلف عن جيوش الانقلابات هناك. من لا يدرك هذا، لا يفهم التاريخ ولا في الجغرافيا، كما لو أنه ليس من هذه الأرض.
وأنتم المتربصون بهذه الأرض، ما الذي جعلكم تقدسون خوذات العسكر؟ لتذكيركم بأن عرب الشرق استوردوا الانقلابات من الأتراك. لكن فقط ها أمامكم مئات الانقلابات على امتداد القرن العشرين، الكثير منها في البلدان العربية والبقية في جغرافيا التخلف الأخرى. اذكروا لي انقلابا واحدا ناجحا. لا أقصد النجاح في الاستحواذ على الكرسي وقراءة البيان رقم واحد، وإنما النجاح في التقدم بالبلاد وتحقيق التنمية والرفاهية والنهوض الحضاري.
لو كنا في الستينات، ما كان يمكننا أن نطرح هذا السؤال، ليس فقط لأن من يطرحه يعرّض نفسه لمختلف التهم من الخيانة الوطنية إلى العمالة والتآمر ووو، ولكن لأنه لم يكن بالإمكان القيام بحصيلة تلك الانقلابات آنذاك. ليس فقط لأنه لا يوجد في الساحة إلا مصدر واحد هم إعلاميوها، وإنما لأنها لم تستوف حظها في الحكم. وها قد مر ما يقرب من قرن من الانقلابات العسكرية، فأشيروا إلى البلد الذي نقله انقلاب من حال إلى حال أحسن، أعطوني انقلابا عسكريا واحدا ناجحا.
في المقابل، الانقلابات العسكرية التي حدثت في الشرق العربي حدّدت مصير هذه المنطقة إلى ألف سنة قادمة أو يزيد. نعم، لقد ركّبت إعاقات لتلك الشعوب التي غلبت على أمرها، والتي لم يبق لها إلا التصفيق للحاكم بأمره. بمعنى أنه بسبب تلك الانقلابات وفي ظلها الكئيب استقالت شعوبنا وخرجت من دورة التاريخ، وماتت فيها المواهب والمبادرة وذوت فيها حتى الغرائز للدفاع عن الأوطان. نعم كان لتلك الانقلابات فعل المؤامرات التي حكمت باستدامة التخلف في تلك الشعوب. وبأنها خرجت تماما من الفعل في التاريخ وفي الحضارة. وما دعواتكم إلا دليل على العجز والخمول الذي ركّبته فيكم الانقلابات العسكرية، أنكم تريدون أن تسلّموا أمركم إليها.