لعل أهم ما حدث في السنة الأولى من العهدة الرئاسية، هو تتالي الاستقالات من حول رئيس الجمهورية قيس سعيد، ولم يتجاوز أصبرهم وأطولهم نفسا أشهرا معدودات، وتواترها يدل على فشلين اثنين، الفشل الأول يتعلق بالخيارات في حد ذاتها، إذ تكشف كما هو واضح عن عدم إحاطة ولا معرفة بالساحة العامة وما فيها من كفاءات وخبرات، وإنما كان المحدد في اختيارهم -كما يبدو- هو ما لهم من علاقة شخصية -قد تكن عرضية أو سطحية- مع رئيس الجمهورية أو دائرته المضيقة أو التي تبدو كذلك؛ أما الفشل الثاني فيتعلق بضعف التواصل بين سكان القصر، وإلا لما اتفق كل هؤلاء، دون سابقية إضمار أو اتفاق مسبق كما هو واضح، على مغادرة مكاتبهم المريحة.
لكن، كل الاستقالات السابقة لها وزن، وثقيل جدا دون شك، على مؤسسة رئاسة الجمهورية، إلا أن استقالة رشيدة النيفر، لها وزن مغاير وأثقل، فهي العنصر الوحيد الذي دخل القصر وله سابق نشاط سياسي وفي المجتمع المدني قبل الثورة، ثم أنها كانت تعرف قيس سعيد قبل الثورة بكثير، ثم أنها استمرت إلى جانبه في القصر لمدة سنة كاملة وهي مدة طويلة بالمقارنة مع المدد التي قضاها المستقيلون السابقون، ثم أنها كانت تقف على ثغرة رئيسية باعتبارها الناطق الرسمي. ولا شك أن استقالتها ستترك فراغا كبيرا.
لقد تحدثت الرشيدة النيفر عن استقالتها التي بقيت شهرا على مكتب قيس سعيد قبل أن يتم قبولها أخيرا، وهو ما يكشف عن استشعاره أهمية ابتعادها عنه ووزن ذلك، والأكيد أنه حاول إثناءها أو إقناعها بالبقاء معه، وأنها كانت مصممة عليها، والتحقت بمن سبقوها.
يبقى السؤال عن سبب تقديم استقالتها، قبل شهر من قبولها، هل يرتبط آنذاك باختيار هشام المشيشي رئيسا للحكومة، فطار من القصر إلى حياض الأحزاب في البرلمان، أم يتعلق بزيارة مارك إسبر (Mark Esper) وزير الدفاع الأمريكي الذي حصل من سعيّد على اتفاق عسكري بعشر سنوات، بما سمح له بأن يتكلم، بلسان من حقق هدفا، عن منافسي الولايات المتحدة الاستراتيجيين روسيا والصين. أسئلة لا يبدو أن القصر معني بالإجابة عليها التزاما بجانب التكتم والغموض. إلا أننا سنعرفها ذات يوم، وربما على لسان الرشيدة نفسها.
نعود إلى استقالتها، فقد قرأت في الأثناء في تعليق على تدوينة كتبتُها، بأنها إقالة ولم تكن استقالة، والحقيقة ليس هناك داع لكي لا أصدق صاحبة الشأن، إلا أن الكلام عن الإقالة، بقدر ما يوحي بأن قيس سعيد هو صاحب القرار والنفوذ، بقدر ما تكشف الإقالة -لو كانت بالفعل كذلك- عن خلاف بينه وبين المستشارة الوحيدة التي لها وزن تستمده من ماضيها السياسي وفي المجتمع المدني قبل الثورة. وأنه ابتعد في آخر الأمر، عما يمكن اعتباره الرأس المدبرة، المادة الشخمة، وخروجها بالتالي سيترك فراغا وأي فراغ. وهو وجه آخر لفشل قيس سعيد.
المشكل أنه رغم الاستقالات المتتالية وما تكشفه من تواضع الأداء الرئاسي زائد الغموض الذي بقي يكتنفها، فإن همة قيس سعيد تعلقت فقط بتوسيع سلطاته ربما إلى الحد الذي كان عليه المخلوع، حتى وإن لم يجد إلى ذلك منفذا في تأويلات الدستور.