اجتمع رئيس الحكومة البارحة مع قيادات من النقابات الأمنية ولا ندري مخرجات هذا الاجتماع... فالحديث الرسمي لا يتطرق عادة لكل ما يجري في هذا النوع من اللقاءات... وبعد ما حدث وما يحدث من تجاوزات وخرق للقوانين من طرف بعض النقابات الأمنية، فإن حديث الصراحة من طرف مسؤول مقتنع بما ورد في الدستور وأقسم على احترامه... ويسهر على تطبيق القوانين... لا يعادي ولكن لا يجامل أحدا... ويتكلم من موقع المسؤولية كرجل دولة.... فإنه من واجبه تذكير تلك القيادات بما يلي... فبل التطرق للحلول...
ففي كل بلد ديمقراطي هناك نقابات أمنية... ويتمثل دورها أساسا في الدفاع عن الحقوق المادية والمعنوية لمنظوريها...بدون التدخل في سياسة الدولة... وتعمل في استقلالية تامة عن كل الأطراف السياسية... بمن فيها الحزب أو الأحزاب الحاكمة... في حين انه لا وجود للنقابات الأمنية في البلدان الاستبدادية أو الفاشية... مطلقا... لأن فيها حكم فردي على الكل أن يخضع له وحده حصريا... وإن لم يفعل فبئس المصير…
وينطبق ذلك أولا وقبل أي كان على الأمنيين الذين يرتكز عليهم هذا النوع من الأنظمة عوضا عن القانون.. وعليهم تنفيذ تعليماتها ورغبات تلك السلطة مهما كانت مخالفة للقوانين...ولو كان ذلك بالوسائل الإجرامية مثل قتل المواطنين كما حدث أثناء الثورة وقبلها... والتعذيب الذي كان سياسة دولة... وتلفيق القضايا ضد خصوم السلطة... الخ...
وعليهم السمع والطاعة لها دون سواها...وإلا فالسجن والتعذيب وتلفيق القضايا تتهددهم كغيرهم من الخصوم... وربما يكون ذلك أتعس لأنهم يعتبرون خونة للعلم... والمقصود طبعا ليس العلم.... وإنما الحاكم الفردي المستبد الذي اغتصب العلم... وهذا ماكان عليه الأمر في تونس قبل الثورة…
فكانت التعليمات الإجرامية لانتهاك الحقوق الفردية والمدنية والسياسية ماعون خدمة يومية عندهم ضد المواطنين... وكانت السياسة الرسمية مبنية على إخافة المواطنين من الحاكم بالقمع والترهيب... و الحاكم كان ممثلا في بوليس السلطة... وقضاة التعليمات التي تضعهم في مفاصل الجهاز القضائي والمواقع الحساسة لتنفيذ سياسة الحكم الجزائية الجائرة…
فلا كانو يلتفتون للتعذيب الذي يمارسه البوليس يوميا لاقتلاع الاعترافات ولا لحقوق الدفاع ولا لتصريحات المتهم بعد خروجه من حصص التعذيب ومثوله أمامهم وجسمه يحمل أثاره... وكل من يقدمه البوليس في حالة احتفاظ تضعه عادة النيابة في السجن بدون حتى سماعه ولو شكليا... الخ...
وقد اعتمد بن على على البوليس السياسي لترهيب الجميع... ومحاصرة الجميع... ولقمع الجميع... إضافة للتجمع المنحل.... لذلك بقى 23 سنة في السلطة حتى انتفض عليه الشعب بعد تخلصه من الشعور بالخوف من الحاكم المستبد... فافتك حريته...وهرب بن علي...ودخل العديد من أزلامه المقربين منه والذين عاثو فسادا في البلاد والعباد بإمرته للسجون…
ولم تكن هناك نقابات أمنية..... بل كانت محظورة بالقانون.... وكان حتى التفكير في بعثها....ومجرد التطرق للحديث عن ذلك... بمثابة الخيانة العظمى.. واكتشف الشعب آنذاك ان عدد الأمنيين كان سر دولة ومضخم فيه صلفا من طرف ازلام بن علي في دعايتهم الكاذبة لمزيد تخويف المواطنين…
والحقيقة أنه كان اقل بكثير مما كانو يروجون... فكان الأمني يعمل بوتيرة مشطة خارج ساعات الدوام القانونية.... لسد النقص في الموارد البشرية الذي يحتاجها نظام مستبد كل يوم أكثر... لتراكم حنق الشعب عليه …
واكتشف الشعب أن الوضع المادي للأمنيين مزري جدا.... وكان بن علي يرفض تحسينه متعللا بكل وقاحة بان لهم مواردا أخرى من خلال.... الرشوة!!! (عاشور.. الخ) قالها بن علي في إحدى خطبه!!!
لكن بفضل الثورة والحرية... تحسنت هذه الوضعية نسبيا عما كانت عليه من قبل.... في زمن بن علي ومن جراء بن علي... هذا الذي تحن لمثل حكمه بعض قيادات النقابات الأمنية المتنفذة.... على حساب المصالح المشروعة للقواعد الأمنية العريضة!!!!!!
ولكن بقيت أجهزته التي وضعها زمن الاستبداد بخلفية قمعية وغير جمهورية على حالها...لغياب الإرادة السياسية من طرف الحكومات المتعاقبة في تطويرها لإرساء أمن جمهوري.. ونتذكر جميعا منسوب الحنق على ذلك النوع من الأجهزة بعد 14 جانفي وحتى قبلها خلال الثورة...وقد تسبب في الكثير من الانفلاتات الغاضبة من المواطنين ... فحرقت الكثير من مراكز الأمن... واعتدي حتى على محاكم وهيئات قضائية…
فكان من الضروري بعد الثورة في إطار انطلاق المسار الديمقراطي... وفي أفق وضع لبنات التأسيس الديمقراطي التي من ضمنها تكريس قيم الأمن الجمهوري الذي نص عليه الدستور من بعد... قبول وتكريس مبدأ حرية العمل النقابي للأسلاك الأمنية…
وقد دافع جزء مهم من المجتمع المدني على هذا الموقف...علنا وبالضغط على الحكومتين المؤقتين التي تراسها محمد الغنوشي ثم الباجي قايد السبسي…
ولكنها تلكأت في القبول بذلك... ولما قبلت به تحت الضغط لم تنظمه طبق مقتضيات المعايير الدولية الديمقراطية للنقابات ... بل تركت الحابل على النابل... ربما أملا في ترضية بعض من تصدروا مشهد تكوين النقابات الأمنية وكسب ودهم... والعديد منهم كانو من المسؤولين البارزين في جهاز بن علي الذين كانو في الصفوف الأولى في تطبيق تعليماتة الاستبدادية... ووجدو في تكوين النقابات وسيلة للحماية من المحاسبة…
فتكونت نقابات.... بعضها لا يؤمن بقيم الأمن الجمهوري...ولا بالديمقراطية النقابة... ولا بالانتخابات الشفافة والنزيهة والتداول الديمقراطي على المسؤولية النقابية... ونصبت قيادات أنفسها على قواعد غير متعودة على العمل النقابي الديمقراطي... بحكم موقعها في الأجهزة الأمنية...وتعودت على قيادتها في العمل اليومي بالتعليمات ولا بالقانون…
وسهلت بعض تلك القيادات الاختراق السياسي للجهاز الأمني كما تعودت عليه مع التجمع المنحل زمن الاستبداد... في وقت بدأ يتعافى فيه رويدا رويدا في جزء مهم منه من سلوكيات الماضي القريب...بفضل حرية التعبير التي انتفع منها الأمنيون كغيرهم من المواطنين…
هذا إن لم يشجع بعضهم هذا الإختراق طلبا للحماية السياسية عن الماضي... ولتشريع التجاوزات في واقع الحال وقي المستقبل..
فتصرفوا كمجموعات ضغط... وأحيانا كمجموعات مسلحة للضغط في الميدان على السلط... ومنها على القضاء في ظل الحكومات المتعاقبة ...مثل الحث على عدم الإمتثال للبطاقات القضائية عند حصول تتبعات ضد امنيين بمناسبة تهم توجه لهم اثناء قيامهم بوظيفهم...ولتكريس الإفلات من العقاب كما يحصل في الأنظمة الإستبدادية والفاشية...والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى..ويكفي الرجوع لتقارير المنظمات الحقوقية التونسية والأجنبية…
كما انهم انتهجوا استعمال الضغط النفسي مقابل الأمن...لتبرير وتعليل التجاوزات للإفلات من التقاضي... أو بالمحاولات المتتالية لتمرير قوانين فاشستية مثل قانون حماية الأمنيين... الذي لم يتجرأ حتى بن علي على التفكير فيه... والدليل انه غير موجود من بين التشريعات التي سنها…
وأصبح هذا يحصل عادة في كل مرة يضرب فيها الإرهاب...أو بمناسبة اعتداء شنيع على امنيين... طالبين من خلاله صكا على بياض للإفلات من العقاب بفعل القانون في صورة خرقه....وعقوبات أشد ضد المواطنين عندما يقع الإعتداء على أمنيين حتى في غير آداءهم لعملهم... خلافا لمبدإ المساواة بين المواطنين أمام القانون الذي كرسه الدستور…
والحال ان الكثير من القوانين الموروثة من عهود الاستبداد لا تحمي فقط الأمنيين اثناء قيامهم بعملهم أكثر من حماية المواطنين ... وإنما تمكنهم من الإفلات من العقاب في صورة الاعتداء على حقوق وحرية المواطنين... وتتعلق أساسا بالإجراءات الجزائية التي لا تضمن المحاكمة العادلة ويغيب فيها ميزان العدالة أثناء البحث لصالح الأمني الخصم والحكم ومتولي البحث...ضد المواطن...والتي لم تكن للحكومات المتعاقبة رغبة سياسية في تغييرها لأقلمتها مع الدستور …
وهي كل تلك النصوص التي وضعت زمن الاستبداد ولا تزال سارية المفعول... ليستعملها قضاء التعليمات في إطار سياسة التخويف والترهيب من الحاكم... وهي قوانينا أصبحت غير دستورية بمقتضى الدستور الجديد لأنها لا تؤمن المعايير الدنيا للمحاكمة العادلة في صورة التعاطي المواطني مع الأمنيين طبق مقتضيات القانون... ولا تكرس الواجب الدستوري للقاضي في حماية الحريات قبل التفكير في سلب حرية المواطن...
تركوها سارية المفعول خلافا للدستور... ولا تزال تستعمل يوميا ضد المواطنين وخصوصا ضد الشباب منهم.... وأي ملاحظ موضوعي يرى ذلك يوميا في مختلف محاكم الجمهورية أين تحال جحافل من الموقوفين خصوصا من الشباب حصل لهم خلاف مع عون أمن او دورية أمنية…
آما دعاية تلك النقابات المنتهكة للحقوق والحريات في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي فحدث ولا حرج....
ففيها خرق مفضوح للقوانين المتعلقة بالنشر بدون محاسبة ولا رقيب...في حين تعتبر مثلها النيابة من قبيل الجرائم السالبة للحرية مثل القذف والتهديد بما يوجب عقاب جنائي والدعوة للعنف واقلاق راحة الغير عن طريق وسائل الاتصالات ...الخ...لما تسلطها على المواطنين العاديين... وحتى المدونين!!!
وذهب الأمر بالبعض من تلك الصفحات حتى إلى معاداة الحقوقيين لما يقومون بواجبهم المواطني برصد الانتهاكات... وهرسلة بعضهم والاعتداء عليهم بالقول... هؤلاء الذين وقفو إلى جانب الأمنيين إثر الثورة للحصول على حق التنظم النقابي....فحتى منطق الرجلة الذي تتحدث به تلك الصفحات... ما ثماش!!! ....
ويحصل ذلك في العديد من الوضعيات باستعمال تجهيزات الدولة التي وضعتها على ذمتهم لحماية أمن المواطنين... وعدم اكتراث بالقوانين التي تتعلق بمنع تكوين اي وفاق يخرق القوانين ويعتدي على الأفراد والاملاك... الخ…
ولا محاسبة ولا رقيب...من طرف حكومات تعاقبت على السلطة ولم تبين قي ممارستها انها هي يدورها تؤمن بضرورة إرساء أمن جمهوري... بل بعض احزابها ساهم في اختراق المنظومة الأمنية علاوة على القضائية لاستغلالها في أجندته الحزبية…
والمطلوب اليوم كاستحقاق دستوري....
وهذا من أركان إرساء الأمن الجمهوري لتطبيق الدستور في هذا الخصوص... مراجعة شروط تكوين النقابات الأمنية...وإدخال الشروط الجديدة في قوانينها الأساسية...لتحترم المعايير الدستورية والديمقراطية ومتطلبات دولة المواطنة و القانون والمؤسسات الديمقراطية...وملائمة القوانين الأساسية للنقابات الموجودة مع تلك الشروط... تحت مراقبة القضاء... ووضع حد للانفلاتات والإفلات من العقاب... قضائيا بتطبيق القانون في إطار المساواة بين المواطنين التي نص عليها الدستور …
والأمر محمول أيضا على السلطات السياسية التشريعية والتنفيذية... بالابتعاد مع الجهاز الأمني عن سياسة المجاملات والنفاق والحسابات السياسوية النفعية الوقتية...فيوم لك ويوم عليك.. والكف عن تقطيع الوقت للتهرب من الإصلاحات الديمقراطية الضرورية التي تنفع الناس جميعا... والتي بدونها لن ينجح الانتقال الديمقراطي في هذه البلاد....
لأنه لا تنجح الديمقراطية في بلد...وستتعثر لا محالة في أحسن تقدير... لما تتحكم في مفاصل حساسة من جهازها الأمني مجموعات ذات خلفية وممارسات فاشستية....
ويجب التذكير... وخصوصا لعلم القواعد الأمنية العريضة... وهم قبل أي شيء مواطنون ولهم حقوق في دولة ديمقراطية ومن حقهم الحماية القانونية عند آداء وظيفتهم مثل غيرهم من الأسلاك المهنية... وفي إطار المساواة مع بقية المواطنين... أن النظام الاستبدادي الذي يحلم به ذلك النوع من النقابات الأمنية يضر بمصالحهم المادية والمعنوية مثل غيرهم وأحيانا قبل غيرهم...والدليل ما كان عليه وضعهم المادي والمعنوي قبل الثورة مقارنة بتحسن وضعهم الحالي…
وان هناك مفارقة يجب ان تتفطن لها تلك القواعد... وتتمثل في أن العمل من اجل الرجوع للحكم الاستبدادي كمن يقطع غصن الشجرة الجالس عليه ...إذ ينتح عنه بالضرورة نسف مكسب الحق النقابي للأمنيين الذي تحصلوا عليه بفضل الحرية... فالحاكم المستبد لا يقبل مطلقا سلطة أخرى مهما كانت لتتقاسم معه حتى القليل من نفوذه...ولا سلطة أخرى تنازعه في بعض صلاحياته... حتى لو كانت نقابة لها مطالب مهنية صرفة خصوصا إذا كانت في سلك حساس بدونه يتعذر عليه ممارسة استبداده على الجميع... وأوله علي الأمنيين…