الثقافة التي يتحلى بها المواطنون... نتاج للتربية والبيئة الحاضنة لهم... وعندما تنغرس في مجتمع ثقافة العنف والأخذ بالثأر لقرون عديدة ثم تمر بعصور البايات وفلقتهم والاستعمار وثقافته التمييزية غير المواطنية لفائدة اللون الأبيض الغربي، ثم تعم ثقافة الاستبداد طيلة عقود... فإن عشرة سنين من الثورة لا تكفي للتخلص من هذا الموروث الثقيل جدا... الذي يطغى على تصرفات الناس اليوم…
ويتعثر ذلك اكثر لما يحكم البلاد في تلك العشرية طرفين.. الأول لا يؤمن بالقيم الديمقراطية، بل يعتبرها تقنية سياسية للوصول للحكم للبقاء فيه، والثاني تربى على الحكم الفردي وثقافة الزعيم المستبد ورجع في الصورة بعد الثورة...بواسطة الانتخابات كتقنية سياسية أيضا للوصول للحكم..
والدليل وليس هذا غريب ان يتفقوا على تقاسم الحكم في المجلس السابق.. طالما انهم كانو متفقين على عدم تطبيق اول دستور ديمقراطي عرفته تونس.. مؤسس على القيم الديمقراطية ويضمن الحقوق والحريات والتفريق بين السلطات ويوزع السلطات حتى لا يرجع الحكم الفردي بسرعة.. ويأسس لسلطة قضائية مستقلة ومحكمة دستورية مستقلة وهيئات تعديلية مستقلة لأول مرة في تاريخ تونس... هذا طبعا علاوة على أنهم لا يختلفون في منوال اللاتنمية الذي طبقوه معا وبالتتالي منذ الثوة....وإلي اليوم…
وحتى بديلهم المعارض لهيمنة النهضة في الحكم في السنتين الأخيرين بواسطة تحالفاتها ووسادتها البرلمانية... وكان البديل الأول في نوايا التصويت قبل يوم 25، وسانده ونظر للتحالف معه الكثير ممن لا يضعون قيم الديمقراطية بوصلة لهم، هو أيضا بديل غير ديمقراطي يحن لرجوع الاستبداد الأعمى من جديد…
وهؤلاء المتحالفين مع الدستوري الحر انقلبوا في رمشة عين مع الرئيس.... بعد أن سحله بعضهم قولا.... بدون حتى احترام انه منتخب من الشعب ولو اختلفوا معه آنذاك...
وبالتالي، فلا غرابة ان يبرز على الساحة بمناسبة ما حصل يوم 25 جويلية وبعده ما برز من اعتداء فضيع على القيم الديمقراطية...من شعبوية ومطالبات بالسحل وحتى الموت للخصم السياسي... والمطالبة بدوس مقتضيات دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية التي ضمنها الدستور...
في الحقيقة كلنا غير ديمقراطيين في تربيتنا... ولو بدرجات مختلفة...وتبرز الخلافات جوهرية بيننا عند الأزمات...حتى لو كنا من نفس التوجه السياسي... ذلك لأننا ننتمي لنفس المجتمع وتربينا فيه معا... ففي العائلة الذكورية، وفي المدرسة وفي ما يسمي البيئة الثالثة تلقن لنا هذه التربية…
وهي لا تختفي بجرة قلم في الجمعيات والنقابات والأحزاب والإعلام والساحة الثقافية المتنوعة... الخ... فهي التي تسود، وهي علاوة على ذلك ذكورية...لأن تلك أصولها أيضا...
وتظهر الخلافات الجوهرية في الأزمات...لأن هناك من استوعب ان القيم الديمقراطية هي التي يجب أن تسود...وأن المسألة الديمقراطية في كل مناحي الحياة الشخصية والمجتمعية والحزبية والسياسية هي التي يجب أن تكرس حتى يتطور مجتمعنا في كل المجالات ويخرج من عصور الانحطاط.. حتى لو كان في صراع يومي َمع نفسه وموروثه... وهناك من لم يستوعب ذلك أصلا.... وإن استوعبه فهو لا يجتهد، بل يستسيغ ما يستجيب لأنانيته وحتى لوحشيته أحيانا... متقاذف بين شعارات جوفاء وممارسة متناقضة معها... وينكشف أمره في الأزمات…
وهذا ما نلاحظه في الساحة السياسية في تركيبات حزبية لا تطالب بالاستحقاقات الديمقراطية...و إن فعلت فبشعارات جوفاء... ولا تضعها في صدارة اهتماماتها... وهي غير ديمقراطية صلبها متمحورة حول شخص القائد الملهم....والأحزاب التي تأسست بعد الثورة تأسست حول القائد الفذ... ولا تجد في بياناتها تركيز على القيم الديمقراطية التي لا تنشرها بين منخرطيها…
وكذلك الشأن بالنسبة للحكومات المتعاقبة....وللمجالس المتعاقبة.... وهل سمعتكم مثلا الرئيس الحالي يستعمل العبارة في خطبه يوما ما؟
شخصيا عندما دونت بعد خطاب الرئيس يوم 25 ان القرارت التي اتخذها لا علاقة بالفصل 80 وهي غير دستورية.. وأن الفرز الحقيقي اليوم هو بين من يدافع على القيم الديمقراطية وبين من ينتهكها... كنت أعلم مسبقا أنه سيكون موقف اقلي بين الذئاب...و المتسلقين... والمتاثربن بالشعارات الشعبوية...او اولئك الذين سينتظرون حصول موجة من عدمها ليركبون عليها إن وجدت. ..
و من يؤمن بالقيم الديمقراطية لا يجب أن يتوقف عن ذلك...مهما كان الموقع والزمان... ومهما كانت المسوغات التي يتسترون خلفها... والدليل ان المجتمعات الصغيرة مثل المجتمع التونسي التي سادت فيها القيم الديمقراطية... هي التي تقدمت تنمويا ومعرفيا وثقافيا وحضاريا…
آما المجتمعات الكبيرة عدديا... والتي لها تاريخ استعماري... فتلك قصة أخرى..