ولماذا رغم الفشل المتواصل..ووضعهم التنظيمي الفوقي الانعزالي.... يرفضون التحالفات؟...يعني التكتيكات...وهي في السياسة من الأبجديات؟ لمحاولة الفهم...يجب الرجوع الى ظروف نشأة الأحزاب والمنظمات اليسارية في بداية الستينات من القرن الماضي وما بعدها...(ما عدى حزب المسار الذي ورث الحزب الشيوعي الذي تكون منذ قرن لأنها حكاية أخرى)…
وهذا ينطبق أيضا على التنظيمات القومية التونسية المختلفة.... لم تتكون تلك الأحزاب...والتنظيمات...والحلقات السياسية التي تظهر وتزول....من رحم المجتمع التونسي وطبقا لما أفرزه الصراع الداخلي... بل إنها تشكلت تاريخيا...وبدون إستثناء... من مجموعات بورجوازية صغيرة مثقفة مساندة لايديولووجية ولسياسات أنظمة يسارية او قومية في الوطن العربي والعالم...او مساندة للطرف السياسي المنهزم في الصراع عن السلطة في تلك الأنظمة…
وفي تلك الفترة، بعد استقلال الدول المستعمرة.. في مختلف بلدان العالم الثالث...ظهرت معارضات للأنظمة المحلية التي استلمت الحكم من المستعمر...وأسست أنظمة حكم الحزب الواحد...وقمعت معارضاتها…
وفي نفس الوقت كانت هناك أنظمة اشتراكية وقومية تتصارع مع القوى الاستعمارية والإمبريالية التي تتحكم في العالم... وكانت تلك المعارضات من الشبيبة المثقفة...التي أنتجتها دول الاستقلال بعد ترويج التعليم العمومي... فتأثرت فكريا بما كانت تروجه من دعاية اعلامية مختلفة الأشكال تلك الأنظمة القومية او الإشتراكية لدى مختلف الشعوب…
فتكونت هكذا تنظيمات مختلفة...ومتنوعة المشارب الأيديولوجية... من الشباب المثقف لأجيال الاستقلال ...يعني من البورجوازية الصغيرة...التي لا علاقة لها بطبيعتها بالصراع الطبقي في بلدانها...وبما انها لم تكن افرازا لواقعها الطبقي...كانت عاجزة على الانغراس السياسي صلب الجماهير الشعبية التي تدعي النضال باسمها...رغم النجاح النسبي هنا وهناك في المجال النقابي المطلبي غير المسيس... ولكنها فشلت في ان تصبح قوة سياسية ذات بعد جماهيري ومنظم صلب الجماهير...
ولما تكونت تلك التنظيمات الشبابية في تونس...مثلما حصل في مختلف البلدان...أساسا بتأثير من دعاية أنظمة لها أيديولوجيتها وسياستها...فإنها لذلك...نشأت متخاصمة في تونس فيما بينها....على قدر خصام تلك الأنظمة مع بعضها البعض...وطبعا بقيت تهدر طاقاتها في ذلك الصراع الطفولي…
وانعكس ذلك في كل المجالات...في المجتمع المدني...والنقابات...والحركة الطلابية...الخ...وطبعا في المجال السياسي...وتجلى ذلك اساسا في الصراع على المواقع لهزم الرفيق الخصم والفوز بالمواقع لقيادته تحت يافطة الوحدة والصراع...وفي المزايدات والمشاكسات الكلامية المهدرة للطاقات...والحسابات الضيقة مثل ضيق افق أصحابها…
وتاريخ تلك الصراعات الشرسة بين رفاق النضال ضد الاستبداد...في كل تلك المجالات والقطاعات... تشهد على ذلك...الي اليوم!!!
ولكن....ومن الدوعشة...فحتى بعد اندثار تلك السلطات في قيادة أنظمة بلدانها ...بقيت تلك الأحزاب والمنظمات وفية لها...تردد تاريخها ومقولات وسيرة زعمائها...وكأنها حجر الزاوية ومؤشر سياسي لتحديد التناقض الرئيسي بين رفاق النضال ضد الاستبداد واليمين!!! بنفس الطريقة التي يحدد بها الإخوان الموقف من الخلافة السادسة ...والدواعش الموقف من سيرة ومقولات الخلفاء الراشدين!!!
وبقي الفرز بينهم والصراعات بين مناضليهم في المنظمات والجمعيات وفي تلك المجالات السياسية إلى الآن...يتحكم فيه اللاوعي الميكانيكي الذي اكتسبوه من ذلك...وبتلك الخلفية التابعة...وإلى الآن لها دور مهم في نسج التحالفات او رفضها...فيما بينهم!!!!
وبالتالي فإن التمسك بالشكل التنظيمي الذي لا يشرك إلا نفس الذين يشتركون في نفس الخلفيات...بالنسبة لكل طرف منهم...كان ولا يزال من قبيل التمسك بالوجود...وقضية حياة او موت!!! وهذا يلقب في السياسة بالعشائرية...التي لا تختلف في شكلها عن العشائرية السابقة لنظام الرأسمالية…
هذه العقلية البورجوازية الصغيرة المؤسسة على أيديولوجية نظام عربي او أجنبي ...تتناقص مع اكراهات الانغراس الذي لا يمكن ان يتأسس الا على مصالح الجماهير الشعبية المادية والمعنوية التونسية...والتي يستحيل الانغراس بدونها في اوساطها...لأن الانغراس بالانضمام للأحزاب مستحيل ان يكون على اساس الأيديولوجيا وإنما فقط على أساس تلك المصالح…
الغريب ان هذه العقلية والممارسة السكتارية...تكرست بعد الثورة!!!...بشكل واسع... فلما أصبحت حرية التنظيم مكسب...تسارع هؤلاء إلى تنصيب أنفسهم "زعماء"...فوقيا...للتصريح بأحزاب فوقية على تلك الشاكلة!!! الشاكلة التاريخية التي طبقت منذ قرن او نصف قرن على الأقل....في بلدان أخرى...وفشلت في السلطة!!!
وهي من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى فشل من واجهوا الاستبداد...في تصدر المشهد السياسي لما بعد الثورة....ورجوع المنهزمين بالثورة لسدة الحكم والمسؤولية في أجهزة الدولة!!!
لأنهم احتقرو الجماهير...وخصوصا الشباب...التي أسقطت الاستبداد...ورفضو تنظيمهم على أساس التوحد في أداة حزبية جماهيرية واسعة (لان التنظيم أداة يخضع لمتطلبات الواقع ويتطور وليس وصفة أزلية) وعلى برنامج استحقاقات الثورة دون سواه...وإنما اشتطرو على المنخرطين الجدد وجوب الانخراط في عقليتهم الأيديولوجية الانعزالية التلقينية ...على الطريقة الداعشية!!
وهذا من بين الأسباب الرئيسية لفشل الجبهة الشعبية...في ان تصبح شعبية...وفي عرقلة تكوين الحزب اليساري الكبير... وهذه حكاية أخرى...تتطلب التقييم في جزيئاته...وهذا سيأتي زمانه…
ومهما كان من سيقدم تقييمه...فهو حر...ولكن ان كان هو والسكتارية خطان متلاصقان...فإن التقييم يصبح غير نقدي...وإنما تبريري...للفشل المتواصل... وأبقى دائما أقول...الحقيقة وحدها ثورية...ويجب الإصداع بها مهما كانت الاكراهات...لدحض الخرافات…
وأبقى دائما متفائلا...خصوصا بالجيل الجديد…