من مظاهر الشعبوية، علاوة على سب وشتم وتخوين الخصوم السياسيين، والإعتداء على الحريات بمختلف الأشكال، وعدم تقديم خطاب سياسي عقلاني يتوجه لعقول المواطنين وإنما لتأجيج أحقادهم وسخطهم على من سبقوها في الحكم وتسببوا في الأزمة التي استغلتها الشعبوية للبروز…
أن هذه الشعبوية ليس لها برنامج لإنقاذ الإقتصاد، ولا لتحسين المقدرة الشرائية ولا حتى لإيقاف تدهورها... وهذا ليس لأنها لا تريد، ولكن لأنها عاجزة تماما على ذلك.. فإما أن تواجه الحيتان الكبيرة واباطرة الفساد الكبار، وفي تلك الحالة لن تقدر على مواجهتهم فهم يتحكمون في الإقتصاد والتشغيل والتجارة والتوزيع، والتوريد والتصدير، أي معيشة المواطنين اليومية، وإن دخلت معهم في عملية لي أذرع فإنها الخاسرة ويثور عليها الشعب لتأزيم وضعيته اكثر،
وإما انها تتحالف معهم حتى تتمكن من الحكم وتبقى فيه، ولا يهمهم الاباطرة والحيتان ذلك، فهم دائما مع الواقف من السياسيين طالما انه في خدمتهم، وإن ركزت الشعبوية نيرانها على بعض الفاسدين الصغار والمتوسطين وحتى بعض الكبار الذين تدخلوا في السياسة ضد الدكتاتور، فعند الأباطرة والحيتان ما على هؤلائك إلا أن لا يتدخلوا فيما لا يعنيهم... كما تفعل هي عادة... و عليهم تحمل مسؤوليتهم بمفردهم. ..
ولتلهية الجزء من الرأي العام الشعبوي الذي يساندها ، تركز الدعاية الشعبوية على الماضي ولا على المستقبل.. لحقد هذا الجزء من الرأي العام على من حكموا من قبل، فترى المطالب ترتكز على المحاسبة والثأر وتصفية الحسابات، والمحاسبة ضرورية بالطبع ولكن يجب أن تكون في نطاق القانون مع احترام المحاكمة العادلة للجميع وهذا لا تريده الشعبوية بل تدعو لخلافه وتمارسه.
ولكنك لا ترى حديثا عقلانيا حول ما يجب فعله عمليا مستقبلا، لإنقاذ الإقتصاد، وإيقاف تهدور المقدرة الشرائية ومزيدا من التهميش المرتقب إن تفاقمت الأزمة، ولا ترى حوارات اجتماعية واعلامية جدية حول مختلف الرؤى والمقترحات ومجتمعنا يزخر بها، ولا ترى حوارات علمية حول كيفية محاربة الفساد الذي ينخر الدولة والمؤسسات، لمقاومته بصفة مؤسساتية دائمة كما يحدث في البلدان الديمقراطية، في نطاق القوانين التي يجب تغيير الكثير منها في تونس بما انها موروثة عن نظام الحكم الفردي الزبوني والحزب الواحد وهي التي نظمت الفساد ولاتزال واستشرى الفساد بعد الثورة بواسطتها، بل ترى الحملات الإستعراضية الفولكلورية الوقتية ضد الفساد والإحتكار والذي نتيجته الحتمية مزيدا من التهاب الأسعار كما يحدث الآن، تحت تصفيق الرعية، وبنفس القوانين وحتى بخرقها عند التطبيق ضد الخصوم...ولا ضد أباطرة الفساد والحيتان الكبار الذين لن يمسهم الإخشيدي مطلقا... لأنه آنذاك يمضي بالريشة الإغريقية على نهايته.
وترى حملات إعلامية تضليلية وتشويهية، مؤسسة على الكثير من الكذب، وكل ذلك مقصودا ومخطط له من وراء الستائر وفي الغرف المظلمة وليس صدفة او مبادرات ذاتية هنا وهناك، او زلة لسان من الدكتاتور الحاكم بأمره الذي لن يتجرأ احد على مغالطته خوفا على منصبه ومستقبله وحتى من تخوينه، أو من أزلامه، وترى حملات إجرامية للتنكيل بالخصوم بدون محاسبة، واعتداءات وتهديدات متواصلة على الهيئات المكلفة بإنفاذ القوانين خصوصا السلطة القضائية، حتى تخضع للسلطة الشعبوية وتنفذ تعليماتها، وترى تكاثر الاعتداءات على الإعلاميين َوالتشهير بهم خصوصا الذين يمارسون الصحافة المستقلة، وتلفيق التهم ضدهم وطبعا أيضا ضد الإعلاميين من خصومهم، وكل هؤلاء عليهم أن يهللوا للشعبوية، وإن لم يفعلوا فالخنوع للصنصرة الذاتية.
وكل ذلك لإلهاء الرعية عن مصيرها المحتوم والنجاح في التمكين، وحتى تظن الجماهير ان الشعبوية بصدد تحقيق مطامحها، والحال ان مصيرها مشؤوم معها....
فهي لن تفيق من لاوعيها بمخاطرها على حريتها وحياتها ومعيشتها إلا بعد أن تتمكن الشعبوية من كل المجتمع ويدب الخوف فيه، وبعد فوات الأوان. ذلك أن وعي الناس يحدده دائما واقعهم المعاش..
ما نعيشه في تونس منذ 25، لا يخرج عن هذا التوجه، وأجزم انه بدا يحصل بحذافره. وقد كتبت من قبل في ذلك الكثير. فمن يعبر اليوم ضد التيار لا مصلحة شخصية له، ولا منفعة له، بل ربما العكس.
وإنما لما تكون السياسة أخلاق، فإن الساكت على الجور والإضطهاد والتعسف والكذب وانعدام الأخلاق مشاركها. وإلا إمشي شد دارك، ولا تعطي دروسا في السياسة لتساند الاستبداد، ولو ضمنيا، لأنك عندئذ لا تختلف جوهريا عنه.
وإني احاول شخصيا كل يوم ان لا أكون من ذلك المستنقع... لأن الشأن العام يهمني ويخصني، بما اني مواطن تونسي وفي بلدي... ولي موش عاجبو ، بالرسمي عندي حكايتو فارغة، لأنها مؤقتة في الزمن، وذري متاع استبداد...ووسادة لتأبيد الفساد...
ولا اريد إحباط النفوس، بل التحذير.
التحذير من مستقبل مشؤوم من كل النواحي علّ البعض يغير ما بنفوسهم التائهة. ولست اعول كثيرا على الفارينيين، والمتسلقين، والانتهازيين الراكبين اليوم على الموجة... لقد خبرتهم زمن بن علي وهم اليوم في نفس الوضعية التي كانو عليها آنذاك او ما شابهها.
اسألوهم فقط أن يقدموا لكم أحكاما سياسية، او من أجل محاكمة رأي، بسبب ممارسة حرية التنظم او حرية التعبير، تسلطت عليهم زمن بن علي.. لن تجدو إلا نزر قليل، والنزر القليل يحفظ ولا يقاس عليه…
أقول هذا بكل صراحة اليوم لأول مرة، ولا أتجنى على أحد، ولم أقلها من قبل، لأن التاريخ يعيد نفسه في شكل مهزلتهم مرة ثانية، ولأني نبت في مختلف المحاكمات السياسة ومحاكمات الراي زمن بن علي. فهؤلاء خبرت الكثير منهم واعرفهم أين كانو وماذا فعلو. وأقوله لأني تطوعت في مختلف المحاكمات السياسية المركبة من البوليس السياسي ضد كل العائلات السياسية التي لفقت لهم... لكن هؤلاء الفارينيين ليسوا من بين ملفاتي...لانهم لم يناصلو حتى من أجل حربتهَم... وقت ما بقا في الواد كان حجرو.... وتونسنا صغيرة جدا.. لا يتعدى سكانها جزء من سكان إحدي العواصم الكبيرة... ولا شيئ يمكن أن ينسى او يندثر…
لكنهم بقوا يا بوڨلب... رغم ثورة اعطتهم الحرية وتمكنوا بفضلها من ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية.. وانتظروا لممارستها يوم 15 جانفي... بقوا لا يؤمنون بالديمقراطية وقيم الجمهورية والمواطنة وحقوق الإنسان التي أعطتهم كرامتهم، اثبتوه زمن بن علي، وها هم الآن يعيدون الكَرة!!!
بل إني أعول على الجماهير الغاضبة اليوم من عشرة سنين من الفساد، والتهميش، وتدني المقدرة الشرائية والمصير المشؤوم، ولو أن جزء منها يعبر اليوم عن مساندته للإخشيدي. وكما قلتها وأعيدها، فوعي الناس يحدده دائما واقعهم المعاش لما يعيشونه... خصوصا لما يفقدون الأمل في تحسينه ... فهذا قانون تاريخي.... دائما..
عندئذ سيفقدون الأمل في الشعبوية وفاريناتها المختلفة، وانتظروا منهم آنذاك ثورة أخرى... ضد الشعبوية وأزلامها وفاريناتها المتعددة..
أما بالنسبة للفارينيين والمتسلقين والانتهازيين، فلم يعد هناك ما هو تحت الطاولة.... كل شيئ موثق بالأحرف والصوت والصورة، كما لم يكن زمن بن علي... فالشيخ ڨوڨل حفظه الله أصبح خدام في كل زمان ومكان وفي متناول الجميع.
وهؤلاء مشاريع لمزابل التاريخ طالما انه لم ينفع العقار الديمقراطي في ما أفسده الدهر فيهم.