رسالة مفتوحة الى السيد راشد الغنوشي .

Photo

تحية طيبة تليق بمقامكم مفكرا اسلاميا و قائدا حزبيا .

أما بعد :

تمر الامة العربية و الاسلامية بتحديات رهيبة تستهدف وجودها و مزيد تفتيتها و استهداف حقها في مقاومة العدو الصهيوني و تحرير مقدساتها و بناء تنميتها السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية المستقلة . و لاشك أن تونس الصغيرة التي أصبحت مهدا لثورة رائدة كما ان مكانتكم في أوساط قوى الاسلام الحركي و الفكري و دوركم في التوافقات الوطنية عوامل مجتمعة تسمح لي بالتوجه اليكم بهذه الرسالة التي اخترتُ أن تكون مفتوحة علنية بعيدا عن طلبات المواعيد التي لستُ ميالا لها و لا حضرتكم متفرغين لمثلها .

حضرة الأستاذ المحترم :

لاشك أن الأزمة السورية بلغت اليوم درجة من التعقيد و الخطورة التي تتطلب قدرا كبيرا من الحكمة و الحصافة الاستراتيجية لتجنب تداعياتها على عموم الأمة وحتى على شعبنا و انتقاله الديمقراطي الذي نحب فعلا ان يكون أنموذجا رائدا لكل الشعوب الطامحة الى ديمقراطية وطنية تخلصها من براثن الاستبداد و تخلص بلدانها من رهن قرارها الوطني و تمنحها في نفس الوقت القدرة على خوض المعركة الكبرى في التحرر الوطني الشامل .

تعلمون سيدي أن احدا لا يناقش حق الشعب السوري كشقيقه التونسي في الحرية و التعددية السياسية و التخلص من تسلطية الرأي الواحد و الحزب الواحد غير أنكم تدركون لا محالة أن انطلاق المطالبة بالإصلاح في درعا أواسط مارس 2011 قد رافقها سريعا قدر كبير من الغموض لا يثبت فيه كثيرا زعم الاستهداف المسلح من طرف النظام الذي كان في التقدير الأقرب للصواب مدفوعا في سياقات "الربيع العربي" المظفر في تونس و مصر الى الانطلاق في اجراءات انفتاح و اصلاح دعا اليها مباشرة حلفاؤه أنفسهم بما يدعم الاستقرار و الوحدة الوطنية في بلاد تستطيع أن تباهي بانحيازها الى المقاومة الشريفة منذ عقود رغم ما يعانيه نظامها السياسي التقليدي من انسداد و انغلاق لا يستطيع فيه المباهاة برصيده الحقوقي .

لقد بينت الأحداث سريعا يا سماحة الشيخ أن القوى الاستعمارية و العميلة لها لم تنتظر كثيرا لتتوجه سريعا نحو فتح بلاد الشام للقتلة الارهابيين باسم "الاسلام و الثورة و الديمقراطية" ليتضح سريعا بشكل سافر أن المستهدف لم يكن "استبداد بشار" بل صمود سوريا و ممانعتها و انحيازها لخيار اسناد المقاومة.

السيد راشد الغنوشي :

يتضح تماما أن الحلف الخليجي التركي الذي تكون سريعا "لنشر الديمقراطية" و "نُصرة الثورة" أصبح رديفا موضوعيا عن قصد أو بدونه للانتقام الأمريكي الصهيوني من سوريا التي غادرت أواسط التسعينات مسار "مدريد" للتسوية المهينة التي أنتجت اتفاقات "أوسلو" المذلة و لواحقها من "واي ريفر" الى "كامب دافيد" الثانية و "العقبة" .

كان الاستهداف واضحا لسوريا التي قبلت أن تكون حاضنا و عمقا لوجيستيا للقوى المقاومة التي حققت انتصارها في تحرير الجنوب سنة 2000 و سوريا التي حضنت اللاجئين العراقيين بعد غزو بغداد و غضت الطرف في حدودها عن مقاومة عراقية و عربية من اطياف مختلفة ساهمت في هرسلة الغزاة الأمريكيين لبلاد الرافدين و هي سوريا التي أرادوا استهدافها في 2005 بقانون الكونغرس وقرار مجلس الأمن و لكنها رفضت طرد رموز المقاومة الفلسطينية من حماس و الجهاد و ظلت على اسنادها لحزب الله ليتحقق نصر تموز 2006 و انتصارات غزة و صمودها في وجه كل محاولات كسرها منذ 2009 .

ان قراءة الازمة السورية في هذا التركيب الشامل يمنحكم اليوم كل مشروعية اسناد حل سياسي مشرف بين السوريين يحقن الدماء و يحقق الاستقرار و يحمي سوريا حاضنة المقاومة و سندها و لاشك أن صفحات الاستبداد و صراع النظام مع خصومه الايديولوجيين من اسلاميين و يساريين و ليبيراليين لا تقل فداحة عن صفحات استبداد المخلوع بن علي مع فارق يمنحكم شرف اسناد مسار المصالحة و التوافق في سوريا كما دفعتم اليه في تونس وهو أن مصالحة المعارضة السورية ستكون مع نظام لا ينكر أحد شرف انحيازه الى أمته في صراعها مع عدوها الرئيسي رغم ما كان يمثله هذا الانحياز من مغامرة على بقائه كنظام .

ان اسنادكم بوضوح للحل السياسي سيساهم في دفع عدد كبير من الاسلاميين العرب كرقم أساسي في الأزمة السورية الى فرز أنفسهم على أعداء الأمة و حلفاء الصهاينة و على الارهابيين الناطقين باسم اسلامية أصبحت تخيف الديمقراطيين و تعطل كل انتقال حتى في تونس كما سيؤدي موقفكم هذا و ما تتمتعون به من وزن في ساحة الفاعلين السياسيين بالمنطقة الى رفع كل غطاء عن العدوان على سوريا و الذي يستمد فيه الغزاة و حلفاؤه كثيرا من "شرعيته" المزعومة من اسناد "اخوانكم الإسلاميين" و "أنصار الربيع العربي" .

ان الجراح التي فُتحت على امتداد عقود بين النظام السوري و معارضيه من الاسلاميين بالخصوص لا تبرر التغافل عن الأخطاء المتبادلة بين الطرفين و لا تبرر تجاهل الخطر الذي يهدد سوريا و صمودها ظهرا للمقاومة بجميع أطيافها و الاسلامية منها بالخصوص في فلسطين و لبنان و لا شك أن زياراتكم السابقة الى دمشق و العلاقات الممتازة التي فُتحت بعد انتصار تموز 2006 بين اتحاد العلماء المسلمين و بشار الأسد اضافة الى دوركم منذ أوائل الألفين في الحوار القومي الاسلامي تسمح لكم اليوم بتدخل حاسم يجعل تونس طرفا مهما في دفع المعارضة السورية الى طاولة جينيف على قاعدة الاتفاقات السابقة كما يجعل تونس الثورة طرفا مهما في عزلة الارهابيين و داعميهم من أجل حوار سوري سوري بعيدا عن التدخلات الأجنبية و أطماع الأعداء .

حضرة الشيخ راشد الغنوشي :

لا ينكر أحد أن الازمة السورية قد القت بالأمة العربية و الاسلامية في أتون صراعات عرقية و مذهبية خطيرة تعيدنا الى عهود تاريخ مريع و مرعب ظننا أن الفكر الاسلامي و الحركة الاسلامية المعتدلة قد تجاوزته من عقود بفضل جهد مفكريها من أهل المذهبين الأساسيين ممن كنت أنت واحدا من أقطابهم .

لا شك أن تباينات كبيرة في وجهات النظر و تقدير المواقف و سوء التفاهم قد راكمتها سنوات عديدة من التجاذبات في المنطقة بين العرب و الجمهورية الاسلامية الايرانية .و لكنك أعلم الناس بان هذه التباينات و الاختلافات لا ترقى الى درجة ان تصبح ألغاما لتفجير وحدة الأمة و القائها من جديد في نار التناحر المذهبي الذي لا يستفيد منه الا الصهاينة و لاشك أنك تدرك أكثر من غيرك أن ايران الثورة التي أعادت فلسطين الى قلب اهتمامات الشعب الايراني و أن ايران الخميني الذي اعتبرته في كتاباتك واحدا من قيادات الامة و مصابيح نهوضها لا يمكن ان تتحول بجرة قلم الى عدو يعوض عداوتنا للغاصب الصهيوني مهما اختلفنا معها في ترتيب القضايا الاقليمية بل ان أحدا لا يستطيع انكار دورها في اسناد المقاومة و مساندتها في الأشهر الأولى للثورتين التونسية و المصرية و استعدادها للدفع نحو انفتاح معقول في سياسات حليفها النظام السوري .

ان كثيرا من الكتاب و النشطاء و القيادات المحمولة على تيارك و افكارك يشتغلون اليوم بجهد غريب على استحضار قدر رهيب من غرائزية التمذهب و يصبون الزيت على نار الفتنة المذهبية و لا شك أن موقفا حاسما من سماحة فكركم ستغلق الباب أمام هذه الهاوية السحيقة التي ينحدر اليها المحسوبون على الحركة الاسلامية في تونس و العالم العربي .

ان جهدا مسؤولا من طرفكم يلتحم مع جهود مشائخ محترمين من أهل السنة و الجماعة و من الفاعلين في الحركة الاسلامية من أمثال الشيح ماهر حمود اللبناني و أحمد الملا العراقي و باقي علماء الوقف السني العراقي المبارك اضافة الى جهود مفكرين اسلاميين مثل الدكتور محمد عمارة و منير شفيق ..كل ذلك من شانه ان يطفئ نار التمزق و يعيد العقول الى هدوئها و بوصلتها .ان هذه المنطقة الممتدة من مراكش الى حدود جاكرتا تنعم بسماحة التوحيد المحمدي و بحرارة الأخوة مع أتباع المسيح و غيرهم ممن هادوا أو استغرقوا في روحانيات آمنة على أرض الاسلام الحنيف يمكن و يجب أن تكون بحيرة سلام عقائدي فعال يداوي جروح انسانية دمرتها مادية الربح و الحرب و الهيمنة .

الأستاذ راشد الغنوشي :

ان مسؤوليتكم اليوم عظيمة في عقلنة طيف واسع من شباب و أتباع التيار الاسلامي المعتدل في العالم العربي حتى لا يكون وقودا أو مبررا لاستهداف الامة باسم معارك مغلوطة ضيعت بوصلتها و ان مسؤوليتكم كبيرة في رفض اضفاء أي مشروعية على أطماع قوى استعمارية و نظم عميلة و رجعية لا نحفظ لها صفحة واحدة من شرف اسناد الأمة في معركتها الرئيسية . ان وضوحا في دعم المسار السياسي في سوريا و ان جهدا صريحا في ايقاف التشنج المذهبي لدى رموز و ناشطين من أصدقائكم و اتباعكم و محبيكم في تونس و العالم العربي لكفيل بحفظ الأمة و مزيد ترسيخ التجربة التونسية فكرا و عملا كنموذج جاذب و مطمئن في نفس الوقت للتيارات المختلفة عنكم في اتجاه وحدة وطنية بين كل تيارات الأمة و ما عدا ذلك سيكون المستقبل العربي مجالا للاحتراب و المواجهات الموجعة للجميع .


*الحبيب بوعجيلة .كاتب و ناشط سياسي .

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات