الرعب الدموي الذي استهدف الاسلاميين بالأساس أثناء عشرية الرماد في التسعينات لم يكن مجرد آلية صراع "نظام" مع خصم سياسي بل كان بالأساس منهج تشكيل لنفسية شعبية عميقة و طريقة بناء لنخبة سياسية و ثقافية على مقاس منظومة حكم و طريقة تسيير بلاد في سياق تحول عالمي تميز أوائل التسعينات بانتصار عولمة القطب الامريكي الواحد و تفشي الفساد و الفاشية النيوليبيرالية في حكم الشعوب و اعتماد تونس مركزا مخابراتيا لتصفية القضية الفلسطينية على أبواب اتفاقات أوسلو و ترتيب المغرب العربي أمريكيا.
يُجمع أغلب المتابعين على أن ما سُلط على الاسلاميين في التسعينات لم يكن متناسبا مع حجم "خطرهم" على النظام .بل ان النسبة الغالبة من المتضررين أفرادا و عائلات و أقارب كانوا مجرد "ضحايا" و لم يُضبطوا "كنشطاء" في تهمة "نضال سياسي" في مواجهة "الحاكم" مما يعني أن المطلوب وقتها من فداحة "الرعب" غير المسبوق هو "اعاقة المجتمع" و خصيه سطحا و عمقا .
تؤكد أغلب دراسات علمي الاجتماع و النفس السياسيين أن "عملية تعميم الرعب" بما هو صفة "الكليانية" كما تعرفها حنا أرنت تؤدي الى "انضباط تلقائي" للمحكومين وهو ما أطنب في وصفه ابن خلدون و الكواكبي وصولا الى مصطفى حجازي عندما عددوا حجم "الاضرار" التي يخلفها الاستبداد في نفسية المحكومين شعوبا و نخبا.
نكتشف بعد زمن من سنوات الرماد و بعد سنوات من عمر الثورة على نظام الاستبداد نفسه أن حجم الاضرار النفسية لنظام الرعب تبدو واضحة على شعب متوترو مسكون بالخوف و قليل الصبر و غير مستعد للتضحية و مُصر على علاقة زبائنية مع الدولة يعيش هشاشة قيمية أمام الاغراءات و شراء الذمم و جُبنا ضمنيا أمام الترهيب و امكانيات الصدام .
النخبة السياسية و الثقافية و الأكاديمية التي أرعبها الوضع التسعيني (إلا من رحم ربي) فاختارت الصمت أو التسويات أو شهادة الزور أو اعتماد البراغماتية و مقايضة سلامتها بتبرير محرقة "الآخر" ترث اليوم احساسها "بالذنب" و "الخصي" مما جعل كل مسارنا الانتقالي قائما على النفاق و رفض المكاشفة و الرغبة الدفينة لإخفاء جرائم الجلاد حتى لو لم تكن هذه النخبة طرفا فيها و لكنها تعيش عقدة الصمت عليها أو تبريرها .
سنوات الرعب الأسود تركت لنا نخبة سياسية و ثقافية "منكسرة" مشدودة الى "عارها" بمستوياته المختلفة غير مستعدة للتصرف مع الماضي البغيض و المستقبل المنشود "بأنفة الثوري" و "تحررية الشجاع" المستعد للكشف و التأسيس كما خلفت لنا سنوات الرعب نوعا آخر من نخبة "مرهقة" غير مستعدة لاستعادة أتعاب صراعات سابقة .أما النوع الثالث فهي "نخبة الاسلاميين" المحاصرين بين "تسامح الخائف" و "المتلهف على التسويات المتعجلة" أو "الضحية المالكة للحق المطلق "التي تعيش غرور "الانتصار"بما هو "هبة ربانية".
ارتباك انتقالنا المتردد و فقدانه لملامح "التغيير و القطع" مع قديم بغيض هو نتاج هذه التركيبة الهلامية لنفسية شعب و نخبة شكلها "الرعب الممنهج" كأداة لبناء مشهد و نظام على مقاس منظومة فساد و استبداد .لذلك فان محاكمة المرحلة و معاقبتها بما يليق بجرائمها هو تطهر جماعي لشعب و نخبة و علاج جذري لوطن .