كان سؤال الفكر السياسي للمعارضة الوطنية غير الموالية في التسعينات إلى حدود أواسط الألفين هو هل يمكن اعتبار الحركة الإسلامية شريكا في معركة الانتقال الديمقراطي في مواجهة التسلط النوفمبري؟
كان الجواب النظري و العملي على هذا السؤال هو لقاء 18 أكتوبر الذي حاول بعد ذلك تأصيل هذا الجواب في النصوص و الوثائق التي أنتجها منتدى حركة 18 أكتوبر الذي ترأسه وقتها خميس الشماري قبل أن ينفرط العقد عمليا و بشكل خافت على خلفية انتخابات 2009 .
و لكن مكاسب نظرية تمت مراكمتها على عجل و أنتجت تمايزا نسبيا بين تيار داخل المعارضة الوطنية يؤسس على وحدة قوى إيديولوجية متناقضة في مقابل السلطة و تيار آخر يؤكد أولوية "النقاء الأيديولوجي" للحركة الديمقراطية برفض اعتبار الإسلام السياسي طرفا في المعركة الديمقراطية و يذهب فصيل من هذا التيار إلى حدود التنظير الضمني إلى أولوية مواجهة "استبداد ديني مفترض" على مواجهة استبداد سلطة قائمة.
هذا التباين في عمق الفكر السياسي للمعارضة التونسية سيظل المحرك الرئيسي للاختلافات داخل الحركة السياسية و لم تكن التوافقات النظرية المستعجلة نفسها في حركة 18 أكتوبر ضمانا لاستمرار وحدتها بعد 14 جانفي 2011 و بعد انتخابات أكتوبر 2011 .
ذلك أن إخلاص الإسلاميين لمراجعاتهم في وثائق 18 أكتوبر لم يكن بارزا في ممارساتهم مع خصومهم بعد فوزهم في الانتخابات كما أن حلفاءهم السابقين من حزب العمال و الديمقراطي التقدمي لم يصروا على الاستفادة من المشتركات و العمل على أساسها في إدارة صراعهم مع الترويكا الحاكمة و نظرتهم للقديمة العائدة بعد صدمة انتخابات 2011 .
خضعت الترويكا المشكلة من جزء من 18 أكتوبر إلى مزاج الانتصارية الواهمة "للاسلاميزم العربية" الصاعدة المدفوعة في سياق حلف دولي خبيث جرجر الثورة التونسية إلى سياقات خططه الجاهزة للترتيب الجديد للمنطقة العربية و إعادة تقسيمها باستعمال النزوع الديمقراطي للشعوب لتدمير ترتيبات سايكس بيكو و فصل المطلب الديمقراطي عن عمقه الوطني لاستهداف المقاومة و إحياء النعرات و الاستقطابات الزائفة.
و بشكل طردي استعادت القوى الديمقراطية التونسية المعارضة للترويكا الاستقطابات الأيديولوجية و ارتفع لديها منسوب الخوف الهووي من "الاسلاميزم" المدفوعة بدورها في أجندات العمى الاستراتيجي الذي صعد أيضا تخوفات معارضيهم من مخاطر "عبرنة" الربيع العربي و هي تخوفات ظهرت مشروعيتها مع اندلاع المؤامرة على سوريا و تصاعد فخ الصراع المذهبي و الأيديولوجي المنحرف عن احتياجات الأمة إلى بناء التأليف التاريخي الضروري بين المطلب الديمقراطي التقدمي و مطلب التحرر الوطني المقاوم في المواجهة الشاملة لثنائية الاستبداد العميل للنظم ما بعد الكولونيالية و العدو الصهيوني و قوى الاستعمار.
غياب قدرة التأليف هذه الكامنة في أحشاء التيارات العربية الكبرى التي تتقاسمها في أعماق كل تيار منها خطوط الدفع إلى التأليف و خطوط نقض هذا التأليف.. غياب هذه القدرة أعاد حركة المعارضة التونسية إلى مربع سؤال آخر أكثر غرابة و سريالية وهو سؤال من يفوز أولا بجائزة التحالف مع القديمة العائدة في شكل جديد لمواجهة خصمه الايديولوجي؟
ضمن هذا السؤال تدحرجت قوى "المعارضة" السابقة بكل تياراتها و بسيطرة الأجنحة اللاتقدمية داخل كل تيار من تياراتها نحو تكتيكات الاستقواء بالقديمة العائدة و التسابق على رضى القوى الدولية المتربصة و المشتغلة على استعمال مختلف التيارات كأدوات وظيفية في ترتيب اللعبة على رقعة شطرنج يتم رسمها للتونسيين المنسحبين من ساحة شأن عام استولت عليه طبقة سياسية محكومة بين فكي قديمة عاجزة و قوى دولية متآمرة .
يتبين لكل أطراف المعارضة السابقة اذا افترضنا لها صفة الديمقراطية و الوطنية أنها في فخ العجز الحقيقي بعد أن جربت كلها محاولة إنجاز الانتقال مع القديمة و القوى الدولية المتحيلة. خسارة اليسار و الديمقراطيين الوطنيين من تحالفهم مع القديمة في جبهة الإنقاذ لم تعد موضع نقاش .و إثبات و مأزق الإسلاميين في التوافق مع القديمة و الانخراط في حلف أعداء الأمة بائن لمن يريد من الإسلاميين توصيف نفسه بصفة الديمقراطيين و الوطنيين .
على قاعدة هذا النقد الجذري ألخص مفردات الخط الثالث الذي حرصتُ على كتابة نصوصه النظرية منذ عقود و اشتغلت على إيقاع حلمه منذ الثورة و للحديث سابق و لاحق.