ليس من العيب الوطني القول بأن التوافق السياسي الذي انطلق ذات صيف من سنة 2013 كان حلا إيجابيا في خضم ذلك الانقسام السياسي المخيف الذي وضع تونس على حافة احتراب خطير بين الفرقاء الحزبيين .
بقطع النظر عن السياقات و المؤامرات الداخلية و الخارجية و بقطع النظر عن الأخطاء المشتركة التي وقعت فيها الطبقة السياسية الجديدة بتياراتها المختلفة من يسار و اسلاميين و وسط و التي أهدتها الحشود المنتفضة وضعا من الحرية و انعتاق الفعل السياسي و بقطع النظر عن الدور السلبي الذي لعبته اللوبيات و المنظومة القديمة المتشضية في التآمر على الانتقال في السنوات التي تلت انتخابات 2011 فإن الحوار الوطني ثم توافق باريس و على علاتهما كانا اسلم الحلول لإنقاذ تونس من المصير الذي شهدته بلدان ،، الربيع ،، الشبيهة .
بعد انتخابات 2014 و الشراكة في الحكم بين النهضة و النداء لا ينكر أحد التلقي الإيجابي لهذه التجربة الذي كنا نلمسه لدى الملاحظين الأجانب و لدى طيف واسع من شعب تونسي ميال في أغلبه إلى،، السلم الأهلي،، لتتفرغ الطبقة السياسية لتلبية حاجاته العاجلة في التنمية و مقاومة البطالة و أنصاف الجهات المهمشة و تحسين ظروف الحياة.
لم يكن مهما موقف الرافضين لهذا التوافق لأسباب إيديولوجية أو ثورية بل لم يكن مهما حتى تشاؤم البعض و توقعهم لفشل هذا التوافق و انا منهم لأسباب عديدة اولها إدراكي لطبيعة الكادر السياسي من فاعلين أنتجتهم هذا التحيل منذ تشكل شركة نداء تونس نفسه و الذي لم اعتبره أكثر من وفاق بين لوبيات و كسور قديمة من المتضررين من الثورة و كثير من المتسلقين الجدد المسكونين بطموحاتهم الشخصية الانتهازية بعيدا عن مزاعم و شعارات المدنية و الوطنية و الحداثة و الكفاءة و غيرها من خطابات التحشيد الكاذبة التي اعتمدوها في تشكيل الحزب و معارضة الترويكا و إنهاك الانتقال و تزييف الوعي و الإرادة حتى يوم انتصارهم في انتخابات 2014 .
انطلق التوافق الباجي النهضاوي مع حزام حزبي معقول في طريق مفتوح منذ الايام الأولى و لكن لم يدم الانسياب أكثر من أشهر قليلة حتى تصدع الحزب الأكبر و اندلع صراع المصالح بين لوبياته لتبدأ أغرب و ابشع أزمة سياسية يتحول فيها الحاكم نفسه إلى شقوق تعارض بعضها بعضا و تتبادل الضربات و الفقأ المتبادل للعيون و التفاضح المتقابل بين شقوق الحزب الأكبر في حين لم يكن الحزب الثاني معنيا باكثر من تحصين نفسه برداء دولة منهكة يناور بين شقوقها المتناهشة لضمان البقاء في سياق محلي و دولي لا يرتاح كثيرا لاسلام سياسي تونسي يجهد نفسه لتطبيع علاقته مع ،، دولة ،، عاد إليها فاسدوها القدامى و الجدد.
لم يراكم التوافق أكثر من الفشل الموصوف على كل الصعد بل لعله لم ينجز أكثر من دعم الفساد و تعميق العجز التنموي و الخدماتي للدولة .
لم يفعل النداء بشقوقه المتداولة على الحكومات الثلاثة في عهده غير أن يثبت لنا أكثر أنه لم يكن بتياراته المجمعة و نوعية الوجوه التي صعدها أكثر من ائتلاف قوى حاقدة على الثورة و أهدافها من مقاومة الفساد إلى العدالة الانتقالية وصولا إلى بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية و لم يكن أداء وزراء النداء و نوابه بكتلهم الأصلية و المشتقة إلا دليلا على هذا الحقد الجذري على الثورة و مخرجاتها في كل المعارك التي خاضوها و القوانين التي مرروها و الخيارات التي يدعمونها في المنتوج الإعلامي و الثقافي و التعيينات و غيرها .
النهضة بدورها لم تكن أكثر من حزب براغماتي صاحب و دعم و شرعن و شارك بمبررات مختلفة مسار الفشل و إعادة إنتاج الفساد و رهن القرار الوطني و استهداف لقمة المستضعفين و ثروات البلاد و العصف بانتظارات و أحلام الناس.
لهذه الأسباب كلها و في الوقت الذي يترنح فيه ،، التوافق ،، بين الباجي و النهضة يبدو عموم الناس غير معنيين اصلا بهذا الطلاق ليكون بذلك هذا التوافق يتيما غير مأسوف عليه فالتوافقات و التسويات السياسية لا تعني الناس إلا من حيث مردودها على حياتهم .
ان التوافق التونسي و رغم حتميته ماضيا و حاضرا و مستقبلا لا يمكن أن يكون مجديا لمجرد كونه حلا براغماتيا لتوازن ضعف بين قوى تتترس ببعضها بعضا إلى حين توفر فرصة طرف للانقضاض على الاخر و الانفراد بالحكم.
التوافقات و التسويات التاريخية هي حل وطني يصاغ بين وطنيين إصلاحيين و صالحين على مشروع وطني يخدم الناس و ينقذ الوطن و يتقدم بالتاريخ و يقطع مع سلبيات القديم و بهذه الصفات فقط يحضى بالمساندة الشعبية و ينال رموزه استعداد الناس للتضحية من أجله و الصبر على مصاعبه و تعثراته .دون ذلك لن يبدو التوافق أكثر من صفقات ذئاب و ثعالب تتقاسم وطنا غنيمة و تتهارش على حجم نصيبها منه و عندها لن يفرح أحد باستمراره و لن يذرف أحد الدمع على انفراطه.