(خاطرة ثرثارة)
أذكر أني في مقال من سنوات ما قبل الثورة تحدثتُ عن سلطة بكماء في عهدها النوفمبري مع رئيس عيي (غير بليغ) يخطب في السنة مرات قليلة من ورقة يكتبها مستشاروه بعد مخض و طبخ يدوم أياما و لم يخطب يوما ارتجالا و ندرك عجزه عن الكلام كلما فاجأته أسئلة الصحفيين بالخارج و نبتسم من حدود قدراته "الكلامية" في زياراته الفجئية .
بُكم السلطة كان قرارا حيث يُمنع الوزراء من الكلام و "الخطاب" و تردُ أنشطتهم في نشرة الثامنة صامتة مرفوقة باللحن المميز للأنباء حتى لا يبدو "ناطق" غير الرئيس في المواعيد المعهودة المُسجلة و الممنتجة جيدا في غرفة المونتاج بالقصر الرئاسي .و حين ارتجل ذات 13 جلنفي كان الخطاب "المُرتجل" مرسوما أمامه في شاشة القراءة باللهجة الدارجة فقال "فهمتكم" و انسحب .
البُكم النوفمبري كان خيار سلطة تحكم "بالجهاز" بعد بورقيبية حكمت عقودا بالخطاب و الفرق واضح بين دولة مشروع التأسيس الذي يجد ما يقول و دولة "الأمن" التي تحكم "ببرقية التعليمات" المختزلة .
في مقابل ذلك كانت معارضة مقطوعة اللسان تنطق بفصاحة في المربعات المحررة من صحف المعارضة و الموقف ابرزها الى المواقع الالكترونية المناضلة.
بعد الثورة كان انفلات تونس الناطقة انتقاما من بكم قسري لمدة 23 سنة من الصمت المظلم و لكن تونس المتكلمة لم تنطق دوما بخطاب ذي معنى .
مثلما يعني الخطاب يونانيا الخطاب العقلاني فيسمى "لوغوسا" تربط ترجمتنا العربية "النطق" و "النفس الناطقة" الكلام كنطق بالمنطق كنظام للعقل .
تنطق تونس الآن بكثير من كلام و جدال و نقاش و يكون لكل وزارة و سلطة ناطقها و لكل حزب و جمعية ناطق باسمها اما الفيسبوك.فحدث وا .لكن كثيرا من الكلام يبدو "فرازيولوجيا" بالمعنى الفرنسي للكلمة أي افراز جُمل أو تبذير جُمل .انه في كثير منه ثرثرة مقصودة فيما يعني و فيما لا يعني ..حتى لا تقول تونس ما يجب أن يُقال في اللحظة و المقام ..يريدونها تونس الثرثارة و نريدها تونس الناطقة .
فلنُرتب أمرنا …