رواية برزخ العشاق : الثورة المنتصرة...الثورة المنكسرة…

Photo

والسرد العاشق بشعرية طافحة

انا من احباء الرواية التونسية..واحد اصدقاء الروائيين التونسيين ..وقرأت مئات الروايات بشغف ومئات اخرى بتعاطف مع الكتابات في تونس ايمانا مني بضرورة تشجيع الكتابة الادبية السردية التي كانت متأخرة قياسا بالشعر والمقال .

وقد كنت مسؤولا عن جائزة كومار ل15دورة ..من التأسيس 1998 الى سنة 2013 .....بدأنا بسبع روايات باللغة العربية وخمس روايات باللغة الفرنسية..وغادرت هذه المسؤولية تاركا للجنة النظر سنويا في اكثر من 45 رواية باللغة العربية وربما اكثر من 29رواية باللغة الفرنسية....

كانت هذه المقدمة ضرورية لأقول لكم باني ما قرأت ابدا رواية تونسية ثم انتهيت منها الى سؤال يعنيني شخصيا لأعرف ما اذا قرأت هذه الرواية بحزن او بفرح... لكني مع رواية « برزخ العشاق « الصادرة قبل شهرين للكاتبة ليلى الحاج عمر عن الدار المتوسطية للنشر...تساءلت لماذا كنت اقرا النص بشغف..ترافقني فرحة مشوبة بحزن كبير..هي فرحة برواية« ادبية» ( وهل الرواية ليست أدبا).. تكتب تاريخ استبداد نظام الرئيس بن علي وفساده..وتشكل العصابات اثناءه انتهت الى قيام مافيا منظمة علاقاتها قويه بالداخل والخارج على حد سواء تنشر الرذيلة وتقاوم القيم ..وتغرس حب المال دون ان تسال عن مصادره وتنشر ثقافة تكوين الثروة مهما كان ثمن ...وبث فكرة النفوذ على الناس و تركيعهم باعتماد الدولة التي تسند المافيا وتحميها بالأمن و المجرمين العتاة ... والرواية تشوبها لحظات حزن دافق لأنها تكتب حكاية ماساة شاب في بداية التسعينات ما ان وضع خطوته الاولى في العمل الصحفي الذي اختاره حبا في الكتابة وعشقا في الادب وذوبانا في الكلمة الصادقة ورغبة في النضال من اجل الحق والعدل والحرية والمساواة ودفاعا عن المبادئ والقيم ..وإذا به يصدم بالمنع والملاحقة والتعذيب والإغراء ليكون عضوا في مجتمع الفاسدين الذي تشكل هو الاخر بالإعلاميين الفاسدين الذين باعوا انفسهم للشيطان في القصر او للإعلاميين الذين يتظاهرون بالمعارضة وهم خائفون من النظام وأمنه ومخابراته فيتعاملون مع النظام حسب الظروف وحسب الشد والانفراج وفق ظروف عادة ما تكون خارجية ... ..

ولحماية نفسه هرب هذا الشاب الى فرنسا..وهناك عبر عن حريته وكتب ما اراد ان يكتب وفضح العائلة الفاسدة وكشف عن جرائم النظام وعرى المافيا .

ونشر كتابا بالاشتراك مع صحفية فرنسية ساندته وقدمت الى تونس لتتأكد من المعلومات التي يحملها الشاب المناضل..

وفعلا تأكدت من كل شيء..وأصبحت تناضل معه....وعاش الشاب طويلا في باريس وتعرف على عدد من التونسيين فأحبهم وأحبوه...وأصبح همزة وصل بين القادمين من تونس وتجربته السياسية النضالية.

وعاد هذا الشاب الى تونس اثر الثورة ..وللأسف كان يحمل فكره الذي لم يتأقلم مع المتغيرات التي حدثت في البلاد ...وكان يحمل معلومات عن مناضلين يساريين وغيرهم تركهم وغادر البلاد...وهذه المعلومات قد تربكهم او قد تنهي حياتهم السياسية وتمنع عنهم الصعود...والبلاد مرشحة لكل شيء...فتخلصوا منه وقتلوه غدرا…

وطبعا مع الحديث عن الثورة وعن تداعياتها ..وعن عمقها وتراجعاتها وعن عودة الفساد والمفسدين وعودة اصحاب المال وأصحاب المستبدين ..و مع رغبة في اعادة تشكيل النظام المنهار وصاحبه الرئيس الفار.

والرواية هي كل ذلك في احداثها لكنها ايضا زاخرة بتفاصيل جميلة عن تونس وعن بعض جهات الجمهورية من الشمال الشرقي والجنوب...و وتحتضن في حنان كبير قصة حب جارفة قوية .بين الشاب المناضل والذي عاد الى تونس كهلا بعد ان اكلت منه الغربة شبابه وصحته...وقدراته الذهنية التي كانت في تونس قبل الرحيل وبعد الرحيل منطلقة...وشابة رائعة شاعرة ..قوية ثابتة …

قصة حب زانها الشعر فالحبيب شاعر ..والحبيبة شاعرة...وما يزيد القصة الغرامية العاشقة جمالا و شغفا بها هو الشعر ...وهناك وعد من البداية ان يكتب العاشق المناضل قصيدة حب لم يكتبها احد من قبل ..قصيدة تكون في مستوى حبه لها وفي عمق عشقها له..هي الاخرى تموت فيه حبا وتعشق نضاله وتحترم رؤيته للحياة والكون والإنسان.....

إلا انها لم ترحل معه ولم تسافر لتلتحق به وفضلت البقاء في تونس تغلي كالثورة التي تتشكل شيئا فشيئا ...وربما حملت ثورتها في اعماقها ..الى ان اندلعت الثورة بحق ..وربما كانت هي الثورة ..وهي الثورة التي انتصرت وانكسرت ..هي الحب والحرمان ...وهي الحياة والموت وهي جمال الانسان في صدقه وقبح الانسان في فساده وتلوناته وعلانيته وأسراره…

كانت الحبيبة كل ذلك مع الاعلان الواضح عن ان الشاب العائد بثورته في اعماقه كهلا منكسرا سعيدا وحزينا ...فاشلا وناجحا ..ثم كان كما الثورة متأججا و قتيلا ...فالثورة في تونس قام بها الشباب ..وتمكنوا من اسقاط.نظام الاستبداد ثم تأججت في كل النفوس وانتصرت ثم انكسرت وفشلت .....بعدان التحق بها جماعة خبراء فساد النظام المنهار..فغرسوا فيها اظافرهم وشكلوا لها جيشا من المفسدين في الادارة والإعلام ،وصنعوا لها ماكينة لتحصد الثورة وتنهيها ..والكاتبة ليلى الحاج عمر لم تسرد علينا قصتها بالارتباطات التي قمت بعرضها هنا بل عرضتها ابداعيا ..وسردها استعملت له لغة جميلة غير متوترة ولا متشنجة رغم ما فيها من قوة الفساد والنضال ضده وقوة الثورة والفساد الذي انتابها وداخلها لإنهائها.....

لقد حلقت بنا في الثورة وفي الشعر وفي الحب بعيدا دون ان تنسى موضوعها وهو الثورة على الفساد والحلم بالمستقبل الافضل....

والرواية لان فيها احداثا كثيرة ومواضيع عديدة وهي مواضيع مفصلية في تاريخ تونس الحديثة فإنها اختارت اسلوبا خاصا لروايتها ..فلا هو سرد كرونولوجي...ولا هو سرد بلغة الصحفيين والمؤرخين وكتاب المقالات الطويلة والعميقة..لقد كانت رواية ابتكرت سردها وجعلت الاحداث تبدأ من الثورة عود بنا الى باريس ورحلة الى نضال ..ثم تكتب عن الحب الملتصق بما تحبه الحبيبة في لباسها وعلاقتها بأهلها وبمسقط رأسها ..ولهجتها فالحبيبة شامخة شموخ الغضب الفاعل والغضب المؤثر في مجريات الاحداث وكتابة التاريخ.....والحبيب كذلك ..حب وثورة فكر وشعر...سياسة وإنسانيات وتعلق بالأب وبالأم..وبالعادات والتقاليد .

بدأت الرواية اذن من الثورة ...ومن قبر الشاب الذي اغتالته الثورة وأعداء الثورة وهو الثائر الذي غادر البلاد هربا من بطش النظام وعاد مع نجاح الثورة فإذا به يدفع الثمن غاليا وهي حياته يعني انه شهيد الثورة قتله من بدا يحلم بانتصار الثورة لصالح ...ولم يكن يدري ان الثورة افتكها الفساد من جديد..وترك الصراعات قوية بين كل المختلفين على الساحة حتى تأتي الحظة التي يضرب فيها ضربته الاقوى لعودة الفساد بأشد ما كان من قبل .

وقد يعود سبب اغتيال المناضل الحالم بمجتمع عادل ..وقدم الثمن حيا وميتا الى انه لم يتفاعل مع المستجدات في البلاد وشخصيته لم تتفاعل مع ما يحدث في الوطن لبعده زمن الجمر عن الوطن ...اه الوطن .

و ...اه من الوطن كم هو عميق عشق الوطن في اغوار روح بطل الرواية ..وفي تلافيف القلب وعضلته التي كانت تنبض بالثورة إلا ان بعضهم خانوه وغدروا به....لا لشيء لا لأنه يعرف عنهم الكثير ..ربما هم من الثورة ..وربما هم من اعدائها فهو يعرف الطرفين جيدا وخبرهما بشكل عميق....هو عاشق للوطن وكيف لا يكون عشقه كبيرا رائعا.... وكم هو عميق حب الوطن في طوايا الروح والقلب والجسد لدى حبيبته الشاعرة المستحيلة..... هو عاشق للوطن وهي عاشقة للوطن ...وكم ان الكاتبه ليلى الحاج عمر عاشقة للوطن ففي كل لحظة من لحظات الكتابة او القراءة نحس بمحبة البلاد ورائحة البلاد وعشق الوطن...والموت من اجل الوطن .

السارد..هو الشاب الكهل القتيل...لم استطع ان انسى انه ذلك الشاب الحالم بالتغيير الهارب من تونس للاحتماء بحريته في الخارج..ورغم عودته كهلا وفي السياسة شيخا لما عاشه من احداث ولما اطلع عليه من اسرار ولقدرته على الافادة لولا غدر الخنجر الذي طوى تاريخه في لحظة صغيرة دامية فاصبح تفصيلا بلا قرار له وكانت شيئا عاديا بلا رموز في تاريخ الثورة وتداعياتها.

إلا ان الكاتبة عرفت كيف تحافظ على بطولة هذا الشاب والكهل ..وعرفت كيف تجعله يحكي سيرته فنستوعب من خلاله الثورة ونعرف منعرجاتها ونتغذى بتفاعلاتها وخلفياتها ..وأسرارها...ونحب الثورة اكثر ونشد على ايدي كل الذين ثاروا وقدموا التضحيات الجسام ثم انكسروا امام سياسيين جلهم مجرمون عتاة وخبراء في الفساد وتكوين العصابات لإنهاء شيء مهم او انشاء شيء اهم....لصالحهم طبعا فلا ثورة عندهم ولا هم يحزنون .

البطل السارد من قبره يتحدث ...وهو يرى الدود ينهشه ...في الجسد الثائر ..والجسد الرمز .هو الوطن
تصوروا كيف ان الرواية تبدأ بالدود في جسد الميت ويكبر ويتكون ابيضا وهو يأكل اللحم من الجسد و يتوسع في حجمه وأعداده فيصبح اسودا .قادرا على النهش اكثر ..وما اشد قبح منظره وهو ينهش كل شيء . ويلتحم بدود الفساد الذي اكل الوطن...دود المجرمين والمفسدين والمستبدين...الدود في النظام وفي انصار النظام الذين لا يرونه إلا غنيمة ولا يعتبرون الشعب فبؤس الشعب عندهم …

و ...الدود في المؤسسات وفي الادارة...والدود في الاعلام والإعلاميين وفي الأنفس الصادقة والأنفس الكاذبة ..الدود يتقدم ويهجم في كل مكان.

..لينظر القارئ في مشهد هذا الدود في كل مكان وستتشكل لديه صورة مقرفة لدود يأكل الجسد ويرتع في القبر ...ويتآكل الجسد شيئا فشيئا ....عندئذ يحس القارئ بان هذا الدود هو الفساد الذي نخر البلاد ...وأضاع الشباب فثاروا ..وشكلوا قوى الرفض ...ونشروا الغضب في كل مكان ...واسقطوا الاستبداد.....إلا ان الدود عاد ..ولم تكن الفرحة بالثورة إلا عابرة .....

لقد كان الدود هو الحاضر بقوة ..وهو الذي يرافق الرواية بطولها وعرضها ..وهو الذي بمشاهدته للدود يتأكد ان الوطن اكله الدود وهم المجرمون من اهل البلاد اولئك الذين شكلوا الة الفساد والنهب .. .فالدود حكاية سوداء يسردها القتيل في قبره .. وهو الذي يجعلك تدخل تفاصيل الرواية ...المنتصرة كتابيا...والمنهزمة روحيا ......إلا ان هذه الروح خفاقة حية ترزق ...تتنفس ثورة كبيرة ...وتتنفس شعرا عظيما جميلا ..ثورة منتصرة دوما و شعرا يعيد الحياة في كل حين ....

تقول الطبيبة الدكتورة والشاعرة ماجدة السباعي عن حكاية الدود «ذلك الدود الأبيض الذي ينهش اللحم ...هو ليس دود القبر فقط كما كنت أسميه ..و عدلت عن تسميته كذلك بعد ان رأيته ذلك الدود يحفر في لحم الانسان الحيّ بكل وقاحة حتى كأنه يقول للإنسان " أنت فريستي حيّا و ميّتا و لقمة سهلة أنخر في لحمك و عضمك كيفما شئت و عينك مفتوحة تنظر ... "كأنما يقول للإنسان المتكبر المتجبر ..لست سوى مضغة لدودة صغيرة ..مهما حملك جهلك الحقيقي للحياة والموت الى متاهات الكذب على نفسك والاستعلاء والغرور وادّعاء الأفضلية. لمن رأى ذلك الدود مثلي و في باطن ذاته ادنى درجة من الوعي و التأمل في الأبعاد المتعددة للحياة والجسد والروح ...أكبر درس و أقوى اعتبار ازاء كل التحولات التي تحدث حولنا ...لمن لا يعتبر اسألوني فأحدثكم عن حديث الدودة التي اخرجت رأسها من ألأصبع الكبير لقدم مريض ..نظرت اليّ ثم سلمتني أقوى رسالة و رجعت تنخر اللحم الفاني المتحلّل كما يحلو لها.... «

هذه الرواية رواية البرزخ..رواية« برزخ العشاق «تؤرخ للاستبداد والثورة …وهي جميلة في كتابتها…ثائرة ..منكسرة لكنها دوما ممتلئة بحضور ذهني كبير…وحضور ثوري باللغة وبالموقف ..وبالمعايشة فهي ليست بعيدة عن العمق الثوري الذي عاشته البلاد السنوات الطوال والذي تجسم في الأيام الاخيرة من عام 2010..وبداية عام 2011…ومن كان كذلك لا يمكن ان يكون منهزما ابدا…….
انها تقول في لغتي النابضة بحب هذه الرواية وفي حبها القوي لروايتها « واضح جدا جدا انتصار الثورة في الاذهان والقلوب وان ابتعد رحيقها شيئا ما فان الثوار عائدون..والثورة …تنتصر…اليوم او غدا.. «
.كل ذلك تقوله الكاتبة دون ان تكون تقريرية في وصف الاحداث و سردها ولا هي جافة في الصياغة الادبية بل هي تتتدفق كالثورة في الشرايين…..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات