كان حاضرا بقوة في الغياب ..ورأيناه جميعنا
رغم متاعبي الصحية سافرت الى قصر هلال يوم السبت الماضي وشاركت في ندوة توفيق بكار معلم الاجيال التي اقترحها وحرص على تنظيمها الكاتب والمنشط فوزي الديماسي..وتبنتها جمعية قصر هلال 2050.وجمعية تونس والسلام وتبنتها للإشراف الرسمي والمساعدة على التنظيم المندوبية الجهوية للثقافة بالمنستير دون ان ننسى المشاكس ابدا السيد صالح السويسي ..احد الوجوه البارزة في الاعلام والثقافة …
وقد اخترت ان تكون مشاركتي بمداخلة لها علاقة بتاريخ سي توفيق بكار وهي بين العمل الصحفي والكتابة الادبية بعنوان «توفيق بكار المنشط الثقافي » ...ضمنتها ما قام به الراحل من اعمال خارج الجامعة منذ بداية الستينات ليكون مشاركا فعلا في بناء الدولة التونسية المستقلة برؤى تقدمية وفكر حداثي ..وروح مبدعة وانطلقت ذلك العمل بتأسيس مجلة اسمها «التجديد»مع جمع من خلانه الذين عادوا من باريس مثله بعد انهاء تعليمهم الجامعي في السربون وغيرها وخاصة منهم المنجي الشملي وصالح القرمادي ..
ثم الى جانب محاضراته التي كان يلقيها في الادب والنقد حرص باتفاق مع السيدة جليلة حفصية على تنشيط نادي الطاهر الحداد بالمدينة العتيقة حيث القى محاضرات في الفكر الاشتراكي العلمي وفي الفكر الاشتراكي العربي ..كما فسح المجال لمساندة حركة الطليعة الادبية في تونس التي تبلورت اثر النكسة العربية في حرب العرب على اسرائيل والصهيونية وأنا اعتبر ان مساهماته خارج الجامعة في اثراء النشر وإشرافه على سلسلات ادبية منها سلسلة «علامات» في الدار التونسية للنشر ...وسلسلة عيون المعاصرة في دار الجنوب هي من صميم الحياة الثقافية افاد بها النقد والإبداع على حد سواء وحرص على اعطاء قيمة للإبداع الادبي مع تهيّب الكتابة والجرأة فيها والتطوير شكلا ومضمونا
كما كان منشطا في ملتقيات الرواية العربية في مدينة قابس .
وقد حدثني محمد الباردي ان الراس المدبر لهذه الملتقيات هو توفيق بكار فقد كان كثيرا ما يختار المحاور ويختار ضيوف الندوات ..ويهتف لهم ويدعوهم بلا بروتوكولات وكلهم يستجيبون له لأنهم يعرفون انهم يتعاملون مع رجل كبير كلمته نافذة لا هيمنة على الاخرين بل بالعكس حبا فيه وفيهم ..
كما كان دينامو النشاط الثقافي الواسع والكبير في مركز مدينة تونس شارع محمد الخامس حيث تعاون مع مديره الشاب انذاك السيد يوسف سلامة وقاموا بتخصيص فضاء المركز ليكون الجسر القوي الممتد بين جامعة تونس والشارع الثقافي لكسر الفكرة القائلة بان الجامعة كانت انذاك معزولة عن الحياة العامة وعن الحياة الاجتماعية والثقافية .
وأيضا لإعطاء فكرة طيبة للقصاصين والروائيين و النقاد والشعراء عن الدراسات والبحوث في الجامعة بما يعني في للنهاية انه انزل الجامعة من عليائها..والأساتذة من برجهم العالي ..لتكون فاعلة ثقافيا وأكاديميا في الوسط الادبي والفني وتطويره من الداخل بهذا اللقاء …
وقد دامت هذه العملية التنشيطية طويلا من سنة 1987 وانتهت في نهاية الموسم الثقافي 1992 وبدأت مع الكاتب الكبير محمود المسعدي .
وقد كانت المحاور مقسمة الى القصة والرواية مع السرديين بداية من محمد العروسي المطوي ومحمد صالح الجابري و رضوان الكوني وعزالدين المدني وسمير العيادي وغيرهم ..وحول الشعر من احمد اللغماني ومحيي الدين خريف ونورالدين صمود وجعفر ماجد الى الطاهر الهمامي والحبيب الزناد وسوف عبيد وحميدة الصولي وغيرهم…
وحول النقد مع حمادي صمود وعبد السلام المسدي ومحمد الهادي الطرابلسي ومحمد صالح بن عمر ..والمحور رابع حول الفنون التشكيلية والسينما ..وكان ينوي ان يواصل مع المسرح لكن ظروفا حالت دون ذلك لها علاقة بالمركز الثقافي الذي بدا البعض ينظر الى الارض المقامة عليه على اساس انها تصلح للبنايات التجارية والبنكية والتأمينات ..إلا ان رئيس البلدية حرص على ان يحافظ على المنطقة للثقافة واقنع رئيس الدولة انذاك بن علي بان تقام مدينة الثقافة الحلم الذي يراود المثقفين لإيجاد فضاءات للعروض الكبرى في الاوبرا والمسرح والسينما وللإنتاج و ورشات للتدريبات والتمرينات ..
وها ان المدينة ظهرت اخيرا ولو بعد اكثر من ربع قرن من البناء والتجهيز دون حديث عن النهب الذي لحقها طول هذه المدة .
وعلى ان ما قام به بكار في هذه اللقاءات والجلسات لتلاقى الادباء القدامى والمحدثين وتلاقى النقاد الادباء والنقاد والدارسين الجامعيين بما فتح الافاق الثقافية والأدبية امام ادباء تونس كلهم وجعلهم مطلعين على احدث التجارب الادبية و النقدية وعلى احدث المدارس العربية والأجنبية في النقد.. .
كما اعاد الحديث عن الطليعة الى الصدارة بعد ان كادت تنسى وتدخل طي الصفحات لان بورقيبة احس بالضرر منها بعد ان قام الفنان علي عبيد بنقد احمد اللغماني ورسمه تحت مدارج قصر يغني يا سلاك الواحلين على المال والهنشير معملين ..
وقد امر بورقيبة بتوقيف الملحق الادبي لجريدة العمل التي نشرت الرسم الكاريكاتوري في صفحتها الاولى وهي الجريدة التي احتضنت اكثر من غيرها تجارب الطليعة ..كما ان الجمهور الواسع تمكن من التعرف على ادباء تونس ونقادها وأساتذتها الجامعيين مباشرة وقد يكون تمكن من تكوين رؤية عن التوجهات والميولات المختلفة من خلال الحضور المباشر او من خلال الجرائد والإذاعات التي تتحدث عن الندوات او تنقلها مباشرة او تتولى اذاعة ما امكن وفق ظروف الاذاعات او وفق رؤية المديرين العامين له المؤسسات فهناك من يحب الادب ويشجع عليه وهناك من لا يحبه ويسعى الى عدم اعطائه القيمة التي يستحقها...
واني مازلت مصرا على العمل على نشر تلك الندوات لاني علمت ان اغلبها موجود ومسجل ..وإذا ما تم نشرها فإنها ستكون ثروة لا تضاهى ادبيا وثقافيا اذ جمعت كل التوجهات بعيدا عن الاحقاد والصراعات فقد حرص توفيق بكار ان يتعامل مع الجميع ولا فرق بين احمد اللغماني مداح بورقيبة والطاهر الهمامي الثائر دوما إلا بالإبداع..
ولا فرق بين العروسي المطوي التقليدي والبشير خريف الرائد في الرواية وعزالدين المدني المجرّب بلا توقف في القصة ولا فرق بين عبد السلام المسدي ومحمد صالح بن عمر في النقد وقراءة النصوص .....
كما ظهرت فكرة جيدة من خلال هذه الندوات التنشيطية للحياة العامة هي قوة العلاقة بين الادب السردي والشعر والنقد والفنون بكل انواعها فلا يمكن ان ينهض ميدان من هذه الابداعات دون الميدان الاخر ..وقد برزت الظاهرة الترابطية زمن الطليعة فقد حدث لقاء كبير بين الادب والشعر والمسرح والسينما والفنون التشكيلية فمن اختار الكتابة الثائرة الطليعية فانه يبحث عن الطليعية في كل المجالات الاخرى ...
وكل هذه المؤثرات والنتائج الايجابية ما كانت لتجتمع معا لو لم يكن توفيق بكار حاضرا ومنشطا فهو مؤمن ايمان كبيرا بالنهضة الشاملة في المجال الثقافي والفني …
تلك بعض الافكار التي عرضتها شخصيا في مداخلتي على الجمهور في قصر هلال ..
كما استمعت الى مداخلات مهمة من الاستاذ حمادي صمود الذي اجاب على سؤال كيف عرفت توفيق بكار منطلقا من معلومة طريفة هي ان الجميعة كانوا يحرصون على اطلاق سابقة «سي »قبل اسم توفيق وإذا ما تم الصاق سي بالاسم يكفي ولا اهمية للقب فيما بعد ..
ان اطلاق سابقة سي تكتفي بنفسها ولا فائدة في ما بعد من ذكر اللقب هو سي توفيق …وقد تولى الكاتب و الباحث و المسؤول السياسي جابر عصفور ان يقدم توفيق بكار في جامعة القاهرة ب سي بكار..وأصبح هكذا يعرف في القاهرة..
ثم تبحر حمادي صمود في تفاصيل ضافية عن كيفية وعن ظروف التعارف فيما بينهما من منتصف الستينيات لما كان سي حمادي طالبا وبكار استاذا في الجامعة ..ثم بعد فترة تدريس قصيرة بمعهد نابل التحق حمادي صمود استاذا بكلية الاداب. والعلوم الانسانية ..وأحب الاستاذ تلميذه وأحب الطالب استاذه ..وتواصلت العلاقات الادبية والعلمية والثقافية بين الرجلين الى غاية وفاة سي توفيق …مع تلاقيهما الفكري وتبني التقدمية و التفاني في محبة الادب والتحليل النقدي و في تفكيك الخطاب والقول …
اما الاستاذ خالد الغريبي من جامعة صفاقس فقد انشا نصا جميلا حول بكار الاستاذ والعالم وعاشق الادب وعاشق النصوص والقادر عل معاشرة النصوص الادبية لسنوات كما يعاشر الاصدقاء فيحدث تطور في فهم الادب وفي تفكيك الخطاب وفي التدريس وفي النقد عموما..فهو يعتقد ان النص الادبي او المقال كائن حي …
وتحدث الاستاذ توفيق العمراني عن اعمال توفيق بكار التي تبدو للناس قليلة وهي في الواقع كثيرة لأنه لم يكن في الكتابة إلا متهيبا لها لا تخرج من بين يديه إلا بعد ليا وتعب ومخاض ..والطريف انه بدا بنشر دروسه الادبية و ومقالاته النقدية إلا بعد الخمسين بل ان قصصياته وشعرياته بعد السبعين ..
لكن لا بد ان نعرف ان مقالاته التي كان ينشرها مقدمات لكتابات عيون المعاصرة …انما هي بمثابة الكتب المتكاملة ..والمقال الواحد مكتف بنفسه ..وكل ما تركه توفيق بكار سيلهج بذكره حاضرا ومستقبلا كما لهجوا به في حياته حبا وعشقا…
اما الشاعر والباحث ادم فتحي فقد اختار عنوانا طريفا ولهو سي بكار العبار ..فقد كان عبارا بالزورق بين تونس وثقافته والغرب وثقافته وحداثته ..وفي العبار مفهوم التهريب لا بروح تجارية انما بروح ثقافية وابداعية تستفيد منها البلاد كما تستفيد من روحها العميقة وبعد رحيل توفيق بكار سيبقى الزورق في الميناء ينتظر من يرحل به من جديد لتواصل المتعة كما في حياته…
وقد ..ساهم في تنشيط الجلستين الاستاذان عمر امام و جمال دراويل… بنجاح ..وفي تقديمهما فائدة جمة ..دون ان ننسى مساهمة المندوب الجهوي للثقافة وممثل جمعية قصر هلال 2050 ممثل جمعية تونس والسلام ….