عندما تكون الفلسفة ممتعة.

Photo

جلسة في اريانة حول تاصيل الحرية : اصل الوجود هو الحرية.
المعرفة سبقت الحرية لذا لا حرية بلا علم وبلا معرفة.

الجلسات الفكرية والفلسفية تحقق المتعة في اغلب الاحيان فما بالك بجلسة مع الحرية… والمتحدث فيها مفكر بارز ذو مكانة مرموقة في تدريس الفلسفة في الجامعة التونسية منذ السبعينيات هو الدكتور حمادي بن جابالله…

فقد حضرت مساء امس الاربعاء في المكتبة المعلوماتية باريانة لقاء حواريا جميلا معه في نطاق منتدى الفكر التونسي الذي ينشطه منذ عدة سنوات احد رجالات اريانة المشاهير ألا وهو الاستاذ عيسى البكوش الذي كان رئيس بلديتها وهو في عز العطاء والشباب. …

وما يجدر ذكره هو ان جل الحاضرين هم من الاساتذة الجامعيين والباحثين وأصحاب المؤلفات والمصنفات ..وهو امر جيد يجب ان يسعدنا اذ نرى النخبة الثقافية في مجالاتها المختلفة تشارك في النشاط الثقافي من اجل الرقي به الى مصاف من شانه ان يرتقي بالكلمة الثقافية ويدفع بها اكثر الى انتاج ثقافي غزير والإبداع فيه كم نحن نحتاجه من اجل نهضة تونس الحقيقية …

ومع ذلك فاني تمنيت لو ان مثل هذه الندوات والجلسات يحضرها جمهور اوسع ..وخاصة من الشباب حتى يكتشف الفرق بين البلاتوهات الاذاعية والتلفزية المنخرطة في ثرثرة لا تنتهي ولا فائدة منها على الاطلاق إلا لأولئك الذين يقفونا وراءها ويريدونها كذلك فارغة الوطاب لأسبابهم الخاصة ومصالحهم التي لا علاقة لها بالوطن … و بين هذه الجلسات الثقافية والفكرية الثرية القادرة على التغيير والتقدم ..

لقد كانت الجلسة مع حمادي بن جابالله بالفعل ممتعة .وكانت الحوارات معه شيقة عبّر عنها في تلقائية لطيفة احد الحاضرين اثناء النقاش قائلا «والله انا شخت اليوم«… .

نعم الجلسة كانت شيّقة لأنها كانت في مستوى شوقنا الى الحرية وهو موضوعها …وفي مستوى شوقنا الى فكر مبدع وهو هدفها و وفي درجة شوقنا الى التعريف بفكرنا التونسي من خلال التعرّف على اعلامه والفاعلين فيه..وأسباب تميزه حينا ..و اسباب تخلفه حينا اخر…

حمادي بن جابالله بدا مداخلته التي ارادها فقط ليستفز الحاضرين حول قضايا الحرية ..وأوضاعها في الحاضر وفي التاريخ ..من اجل حوار ثري وبناء..وقد تحقق ذلك ساهم جل الحاضرين في النقاش والسؤال وإبداء الراء في مسالة الحرية بدأها بتخريجة طريفة عن الحرية استقاها من قصة ادم وحواء كما وردت في جميع الاديان ..مشيرا الى ان ادم الذي عصى ربه وهو في جنان الخلود خرج من الوجود الملائكي الى وجود انساني ..

وتساءل المحاضر : هل ان ادم اختار من تلقاء نفسه الخروج عن طاعة الله او هي بإرادة الله …ودون ان يجيب تاركا ذلك الى التأويلات والآراء المختلفة التي تثري الفكر والعقل ولا تضير منهما شيئا ويتخلص الى القول بان ادم مارس فعل الاختيار او الحرية ..فمان الوجود الانساني….بالتالي فان اصل وجودنا الانساني هي الحرية ..وذكر في وضوح تام انه ليست ثمة دينا لا يتأسس على الحرية ..وانطلاقا من الحرية يتم كل ما سيأتي…..وقال :

«لقد قدر الله لنا ان نكون احرارا ولذا يمكن الجزم بان الحرية هي شرط امكان الانسانية« ..

ولاحظ بن جابالله بان المعتزلة فكروا في مسالة اختيار ادم ..يعني انهم طرحوا لأول مرة قضية الحرية …ويرى ايضا ان البخارى يقول بان الله قدّر ان نكون احرارا ومسؤولين عن وجودنا …

وإذن فان بن جابالله بهذه الانطلاقة من الاديان اوضح بما لا يدع الى اي شك ان اصل الوجود وروحه هي الحرية وهي الاهم عند الانسان و هي التي لا قبلها شيء ولا بعدها شيئا ..فهي التي تعطي للإنسانية معناها العميق .و هي التي تؤسس للفائدة الاولى لوجود الانسان كخليفة الله على الارض…

لكن الحرية لا يمكن ان تكون ذات فائدة وطات ايجابية فاعلة ان لم تكن مرفوقة بالمعرفة ..

ومرة اخرى يستقي ذلك من الاديان و من القران بالذات مستشهدا بالآية الكريمة .«علمه الاسماء كلها » والمقصود به ادم عليه السلام بما يعني ان الله علم ادم قبل نزوله الى الارض وتأسيسه للوجود الانساني اي ان العلم /المعرفة سبق الحرية ..ويمكن القول بان الوعي بالمعرفة سبق انفجار الحرية…

وكانت هذه الانطلاقة الفكرية توطئة للحديث عن الحرية في تونس بمفاهيمها وتطوراتها عبر التاريخ متوقفا عند اهم المحطات ..ليؤكد ما اوضحه ملخصه للمداخلة اذ يقول :

«لم يفصل التونسي منذ بواكير عصر الاحياء مطلب الحرية عن مطلب المعرفة العقلية تقديرا منه ان الحرية هي جوهر انسانيتنا فينا وان المعرفة هي السبيل الى انجاز تلك الحرية في وجودنا فردا وجماعة ..لذلك راوح التونسي باستمرار منذ منتصف القرن التاسع عشر بين الاشتغال على تأسيس مؤسسات المعرفة وسن تشريعات الحرية فكانت للمدرسة الحربية بباردو وإلغاء الرق ثم عهد الامان 1857 ودستور1861 ..وتشييد الصادقية 1875 واصلت التعليم الويتوتي ..وتلا ذلك سن مجلة الاحوال الشخصية في سياق تحرير المرأة 1956 فقانون توحيد النظام التربوي 1958 ..وتوجت هذه الملحمة ..ملحمة القيم الوطنية مرحليا بدستور 1959. »

تلك هي بعض اللحظات الفارقة في مسيرة طويلة كانت الحرية فيها على الدوام غاية الغايات والمعرفة العقلية الحديثة انجع وسائل تحقيقها …وتساءل :

«كيف يمكن تفسير هذا التلازم بين مطلبي الحرية والعلم في تاريخ تونس الحديث ..وكيف نفسر انتصارات التوتسي وانكساراته في العصور الحديثة ..؟؟! »

وكيف نفسر غياب الوعي بحقيقة تلك المسيرة بما لها وما عليها غيابا جعل البعض يذهب ولاءه الى غير الوطن..

وتوقف بن جابالله عند التوضيح او التفسير او الاستشهاد عند عديد المحطات من التاريخ والفكر والسياسة تونسيا وعربيا واسلاميا وعالميا ..وهو البحر ان سبحنا فيه .. وهي ثروات فكرية ان غصنا في هذا البحر من عصر دخول المسيحية الى تونس في العهد الروماني والصراع الذي نتج داخل الكنيسة بين الفرقاء والفرق الدينية الى سانت اوغستان..والثائر تريليان الذي تحدث عنه الفلاسفة و المفكرون على مدى التاريخ لأنه ناشد الحرية وعصى الاوامر…

وردا على التساؤلات والمناقشات التي جاءت فيها اضافات مهمة حول عذابات الحرية والنضال من اجلها في التاريخ الانساني وفي التاريخ العربي الاسلامي وحول شهداء الحرية من اهل الفكر والشعر والأدب ..فأشار بن جابالله في شيء من التوازن بان ما شهدته الكنيسة المسيحية من قسوة وعذاب بكل الانواع والصفات من بعض السلاطين والملوك ما لا يمكن الاحاطة به كله…

لكن ايضا ما شهدته الكثير من الامم من تصرفات الكنيسة وقسوتها وفضائحها ما لا يمكن لمجلد واحد ان يتحدث عنه بشكل كامل وموضوعي ولذا لا يمكن لحضارة ان تزايد على اخرى في هذا المجال ….فالحرية في كل الشعوب والحضارات ثمنها باهض… ..ومازالت الانسانية تدفعه….لكن النتائج تكون دوما لصالح الحرية ….

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات