بقطع النظر عن المفهوم الساخر للكاتب الكولمبي الكبير عن الوطنية من أنها مجرد خدعة اخترعتها الحكومة لكي يحارب الجنوب مجانا، (مئة عام من العزلة)، فإنه لا أحد يتوقع أن يمتدح الرئيس نفسه في بلاغات رسمية من المال العام كأنه عمل مزية على الشعب الذي انتخبه من أجل ذلك مقابل 30 ألف دينار شهريا و194 مليون دينار سنويا من الميزانية غير القابلة للتدقيق، في بلاغات من نوع: "شعورا منه بالمسؤولية التاريخية التي يتحمّلها لا سيّما في هذا الظرف الوبائي الدقيق الذي تمرّ به بلادنا، يواصل رئيس الجمهورية قيس سعيّد بذل الجهود... (bla bla bla)"
وهو ما يوازي في مدرسة البلاغات الإعلامية للأنظمة العسكرية العربية مدرسة أحمد سعيد في إذاعة صوت العرب الذي كان يعلن عن سقوط مئات الطائرات الصهيونية في حرب 67 وقرب دخول الجيش المصري أرض القدس "توجيه من السيد الرئيس"، وقد انتهت خدعة إعلام أحمد سعيد وأصبحت مدرسة في ما لا يجب قوله في الإعلام الحكومي وكانت النهاية التي تعرفون: حكومة عربية عاجزة عن إدارة كشك فواكه جافة، والمشترك الوحيد اليوم مع مدرسة أحمد سعيد هي اللغة الخشبية التي تبدأ بـ "إيمانا منه، السيد الرئيس..."، إذ لولا إيمانه لضعنا ومشينا بازقة على رأي قمارجية زمن السبعينات في السجون الوطنية،
السيد الرئيس يوجه بـ... مقاومة الموت، إيقاف الطقس، نزول المطر، توقف الوباء، مثلا، وكان كاتب مصري يقول ساخرا في زمن مبارك "يكفي أن يحك السيد الرئيس رأسه، لكي ترسل وسائل الإعلام توجيهات لاستعمال نوع معين من الشامبو الفاخر"،
المهم :الموظف العمومي، "شعورا منه بالمسؤولية التاريخية" الجسيمة الملقاة على عاتقه على طريقة بلاغات السيد الرئيس، ولولا المشاعر الوطنية الجياشة (موسيقى حزينة ودموع)، فإنه يقاوم بضراوة كل صباح لكي يذهب إلى عمله ويقوم بواجبه التاريخي في خدمة الناس، لكن المسألة تحتاج جرعة من الوطنية الجياشة، التي لا هدف لها، سوى العودة إلى مدرسة أحمد سعيد في حشد الناس على هيئة قطيع متحمس وراء الزعيم الملهم الفذ الأزلي الذي لا يذهب مثلنا إلى بيت الراحة، وعليه، فمن حق الموظف العمومي أن يحس أنه يؤدي عمله "إيمانا منه"، وليس عملا بأجر وحقوق شغلية ولا مبرر فيه للمديح أو التنويه في بلاغات رسمية، حيث نحن الوطن الوحيد الكئيب في هذا العالم الذي يخصص للسيد الرئيس وقتا لاستقبال السفراء الجدد مع موسيقى جنائزية على أن ذلك حدث وطني، فيه دائما روح "إيمانا منه"،
لذلك هو عمل يستحق التنويه والنشر في بلاغات رسمية، أتوقع أن فيها "من يحلب ومن يشد المحلب" إلى أن تصل إلينا في صيغتها القرآنية الأخيرة، للاستهلاك بعد الأكل، ينقصها فقط: مع الانتباه الشديد إلى نسبة السكر وضغط الدم، مع عبارة "لسنا مسؤولين على سلامتك" عند استهلاك هذا المنتوج الإعلامي إن لم يكن لديك إيمانا منه، في آخر البلاغ، وهو عنوان الجزء الثاني من رواية "أحباب الله"، والله من وراء القصد،
هل أخذ السيد الرئيس جرعة مواطن آخر، أم جلب معه جرعته لأجل المسرحية؟
من حيث المبدأ، ليس هناك أي مبرر في أن "يقفز السيد الرئيس" لينزل في قلب منظومة التلقيح الشعبي بعنف كل الأرماتورا المسلحة واللوجستيك الرئاسي إلى المنيهلة و"تحييد المكان" أمنيا، فيما يحترق المسجلون في المنظومة تحت شمس الانتظار، وراء كل ذلك فرق التصوير ووسائل الإعلام في مكان ضيق صعب المراس، هل أخذ السيد الرئيس جرعة شخص آخر أم كانت هناك جرعة مبرمجة باسم شخص "مهم" في منظومة إفاكس للتلقيح المواطني يومها؟ أم جاء بجرعته الخاضعة لحراسة الأمن مسبقا لمجرد أداء دور مسرحي إعلامي؟
السيد الرئيس يحظى بأولوية التلقيح بصفته تلك، إما أن يستغلها إعلاميا في وقتها للتشجيع على التلقيح، وإما أن يختار "نبل" الانتظار والتواضع ومعاناة التسجيل في منظومة إيفاكس لانتظار دوره في التلقيح مع المواطنين، وهنا أيضا، يفترض أن يكون تلقى الجرعتين منذ زمن بالنظر إلى عمره، وإلا سيكون اتهاما للمنظومة بالفساد والانتقائية،
ما بقي لنا إذن، هو اختيار هذا اليوم الحار الجهنمي للإخراج السيئ لمسرحية التلقيح: أن تنزل في آخر وقت، بكل قوة جهاز الأمن الرئاسي لتأمين مسار الرئيس الشاق في حي شعبي، لتلقى التلقيح دون موعد ولا تسجيل ولا انتظار تحت الشمس، فقط: عشرات العدسات لأجل مجد صورتك الباهتة الغامضة وعشرات الأسئلة حول ما قيل للمشرفين على التلقيح في المنيهلة منذ الأمس، هل أعلموهم بزيارة السيد الرئيس، هل فرضوا عليهم أن يكونوا ديكورا لمسرحية تلقيح تكون فيها الجرعة ومن يمسها ومن يمدها ومن يحقنها عند الأمن الرئاسي؟
حسنا، إن ذلك يذكرنا بمسرحيات الإعلام الحكومي في سنوات الستين عندما كان أعوان مليشيات لجان اليقظة يضعون الماء في الحفر على أنها آبار عميقة، في طريق الزعيم بورقيبة لإيهامه بنجاح مخططات التنمية، كانت فكرة مؤثرة في وقتها، نحن في زمن الفايسبوك أيها السيد الرئيس…