"قد أختلف معك في الراي ولكني مستعد ان ادفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك"، (فولتير 1694-1778) ويفترض أن مقولته تصلح خلاصة لأي حديث عن الحريات والحقوق الأساسية في ظل تنامي العنف الشعبوي المستند إلى أوهام السلطة، لكن لنبدأ بها لأني سأعود إليها،
الأستاذة إيناس حراث، بصفتها محامية، نقلت لنا موقف زميلها سيف الدين مخلوف، مدني ومحام لكنه موقوف على ذمة قضيتين عسكريتين هما حادثة المطار وخلاف ليس له علاقة بالجيش مع قاض بالمحكمة العسكرية، وهو خطاب لن تجده أبدا في نشرة الأخبار العمومية على أهميته وإذا نقلت أنا كلام المحامية بصفتها تتمتع بحقوق المحاماة وأنا بحق وحرمة الصحافة، فسوف أؤكد ما يروجه عني الكثير من الزملاء من أني "نهضوي دعشوش متخف، كان من أنصار المرزوقي ثم تحول إلى ائتلاف الكرامة" وتنتزع عني صفة الصحافة المهنية وتصبح الأستاذة الحراث أيضا "محامية إرهابيين" وهو ما لم يقل أبدا عن محاميي صالح عبد السلام المتهم في جريمة مطعم الباتكلان في باريس الذي خلف 130 قتيلا، فيما يتفق الجميع في فرنسا على أن المحاكمة ليست فرصة للإدانة بقدر ما هي فرصة للفهم وتفكيك الجريمة وهو مفهوم خطير يرتقي غلى مرتبة الجريمة،
وإذا حاول صحفي شاب أن ينقل ذلك أو يسألها لتطوير المعنى حول ما تقصد على قلة من يريد ذلك، فإنه سيصدم بتهم "تحب تولي معاهم حتى أنت؟ مازال لحمك طري؟"، ولما تتحدث عن الحقوق والتوازي في التغطية وحق الناس في فهم ما جرى، سيقال لك بعنف: "آنا فهم وآنا حقوق؟ كلهم إرهابيين"، وهو كلام قاله لي زميل يفترض أنه ابني مهنيا وأن عليه أن يستفيد مني حتى حين أكح، كل رصيده عشرة أعوام من الصحافة المكتبية في تحويل برقيات وكالة Tap بعد ثلاثة أيام من صدورها إلى أحداث وطنية مزيفة لأنه غير خاضع لأي شكل من أشكال جودة الإنتاج، هو فولتير نفسه كان سيجد نفسه، لو عاش في تونس مع هذه الهمجية المهنية في السجن من أجل تلك المقولة الحمقاء، أما تهمة "النهضة والدعششة" فهي توجه لكل من ليس معي في إطار الكسل الذهني والمرض النفسي الجماعي التاريخي للجهلة والشعبويين، فهو بالضرورة مع النهضة،
حسنا، لكن ماذا لو قلت لكم، إن الدعوى ضد المحامي والمواطن سيف الدين المخلوف، الذي ما يزال وفق الدستور نائبا عن الشعب التونسي في انتخابات ديموقراطية لم يتم الطعن فيها ولا في النتائج الانتخابية الخاصة به، والذي لم أقابله في حياتي أبدا وليست لي به أية علاقة تنظيمية أو ترتيبية ولا حتى مهنية أو شخصية وأنه لا يستطيع تمييزي بين ثلاثة أشخاص، سوف يربح أية دعوى يرفعها ضد الدولة أمام أية محكمة الإدارية أو دستورية أو دولية؟ وأنه وفق منطق فولتير قبل قرنين ونصفا، فإن كل إجراءات الإحالة الأخيرة إلى المحكمة العسكرية وكل عمليات الإقامة الجبرية والمنع أو التعطيل من السفر كلها غير دستورية وغير قانونية ويمكن خسرانها ببساطة من حيث الشكل أمام أية محكمة تحترم الحد الأدنى من مجلة الإجراءات في دعوى تجاوز السلطة، وأنه يمكن محاكمة المسؤولين عليها بتهمة التعسف في استعمال السلطة، وأن ثمة جرائم لا تسقط بالتقادم أصلا،
في مقابل حرمان النائب سيف الدين مخلوف من حقوقه بصفته نائب شعب، أيا كانت التهم المنسوبة إليه إلى أن تثبت في محاكمة عادلة، فإن السيد الرئيس يواجه تهمة خطيرة يتناساها أصحابنا ممن نتقاسم معهم الاشتراك الظالم في محنة الإعلام وهي أنه وفقًا لتقرير محكمة المحاسبات في رقابة الانتخابات الرئاسية 2019، "توجد 30 صفحة غير رسمية لفائدة حملة قيس سعيد بها 3.045.566 مشترك، تضم 120 مشرفًا (85 من تونس و24 من فرنسا و2 من الولايات المتحدة)"، دون اعتبار آلاف الصفحات التي نشأت فيما بعد لمساندة الرئيس ولا أحد يعرف لها أصلا سوى أنها خارج تونس تتكون من بنغال على هنود على باكستانيين على إيرانيين على فوضى وشعوب لا نعرفها أصلا تطبق الانماط المنظومية لكامبريدج أناليتيكا لتزييف الوعي العام.
في المقابل، لم يثبت على النائب سيف الدين مخلوف أنه استعمل أموالا أو علاقات من الخارج، ربما كان قبيحا، فوضويا عنيفا، متهورا؟ أي شيء، المهم يجب أن نجد صياغة قانونية لمحاسبته، أما إيقافه في السجن، بصفته نائب شعب ومحام، فهو حقا عمل متهور، يتعارض تماما مع ما يقوله فولتير منذ قرنين ونصف، ومما يؤثر عن أحد جلادي قادة الشرطة في بداية سنوات التسعين أنه أراد وضع الشاعر الخالد محمود درويش في S17 لأنه كان يظن أنه مجرد "مواطن تونسي قبيح" معارض مغترب في المنفى، إلى أن اقترب هذا الكائن من حركة النهضة فنسي الجميع أمره في الضجيج الفوضوي للثورة مع احتفاظه بواجب اعتبار الشاعر الفلسطيني شخصا سخيفا معاديا للدولة وهو شرف حقيقي له تجاه جلادي الامن في العالم العربي، اقرأوا الأدب الخالد لأمريكا اللاتينية في مقاومة الطغاة حيث الحكام العرب شخصيات روائية في كتب ماركيز، وحيث المثقف والصحفي في فضاء كرامة النقد دائما بعيدا ذل الولاء للسلطة،
أقرأ منذ يوم الأحد، تعاليق لزملاء صحفيين، لا تتحمل تفسيرا لذلك الخروج غير أنه مؤامرة فاسدة على سعادة حياتهم الهنيئة التي تؤرقها مثل هذه المظاهرات، إرهاب، عنف، مجرمون وفساد شوكوطوم تطور إلى تمر ودقلة و50 دينارا رشوة وثمة من نشر صورا قديمة عن كرادين الكسروتات والماء، أنا خرجت مرة في مظاهرة تضامنا مع فلسطين في شارع الجمهورية في باريس في ديسمبر 2001، أعطاني منظمو المظاهرة قارورة ماء وعلبة شوكلاطة وسألوني عما إذا كنت أعاني من أمراض مزمنة مثل السكري أو ضغط الدم، "الخماج"، أفسدوا طهارة عقيدتي النضالية واشتروا ذمتي بدبوزة ماء صغيرة وعلبة شوكولاطة، بعدها أعطاني جماعة الحماية المدنية قارورة ماء أخرى وورقة صغيرة فيها رقم هاتف الحماية لكي أتصل بهم إذا استعمل البوليسية الغاز أو العنف، يا للفساد؟
لنعد إلى تونس: كل من خرج أمس الأحد إل الشارع، هو مع النهضة لضرورة الاستجابة الفكرية للكسل والأنانية الفكرية، والنهضة، حسب ما اتفقنا عليه في الإعلام، شر خالص مستطير، وليس هناك أي معنى للديموقراطية والانتخابات والانتقال السلمي للسلطة في ظل وجود النهضة، إذا حققت النهضة نتائج إيجابية في الانتخابات، فيجب أن لا ننظر أبدا إلى أعوار منافسيها وتقصيرهم في الذهاب إلى الشعب أو تقديم أفكار حقيقية تحترم الحد الأدنى من أوضاعهم، بل انتصرت لأنها "لا يجب أن تنتصر" تحت شعار "شدوا لي السلطة خلي نغلب النهضة"، لأننا نحن على صواب مطلق وهي على شر مطلق، باهي، هاي تفتقت النهضة من بعضها، من ستجدون الآن لتعلقوا عليه شماعة فشلكم التاريخي؟
لقد كتب لي أحد قادة المعارضة القومية في تونس على هامش مسيرة يوم الأحد عن جمهور النهضة: "وهم يرون أن الوطن حفنة تراب عفن... ويرون الصهاينة أبناء عم، والشعب مجموعة من العصاة الهمج المناوئين، الجماعة الإسلامية في لاهور أصفى وأقرب منه والنضال من أجل الوحدة العربية ملهاة وكفر... فاسدين يتحالفون مع الفساد ويحتاجون بعضه هم يعتبرون الإسلام مجرد وسيلة للحكم ويوظفونه في غير أحكامه ومقاصده..."، هل ينطبق هذا التعميم الشعبوي على التونسيين؟
لقد انتخبت أمي النهضة لأسباب تخصها، وهي امرأة في بداية الثمانين من العمر تعاني من أمراض مزمنة فهل علي أن أخفيها عنك أو أدفعها إلى تقديم شهادة توبة لكي تؤمن نفسها ضد أي إجراءات محتملة بتهمة "لاهور والطالبان والعصاة والهمج" ولأنك تتهمها وهي في أعماق ريفها تعيش على بقايا ذكرياتها بأنها تعتقد أن "الصهاينة أبناء عم"، هل كانت أمي كما يراها هذا الزعيم القومي: "يرون الشيخ تميم مولاهم واردوغان سيدهم... يكرهون عبد الناصر وصدام ناهيك عن ماو ولينين وتشي..."،
أمي لا تعرف ولا تجد وقتا لكره عبد الناصر فـ "ناهيك عن ماو ولينين وتشي"، لماذا لم تضف إليهم الرفيق بول بوت عند الخمير الحمر؟ وورثة كيم إيل سونغ في كوريا الشمالية لكي تحكمونا إلى الأبد باسم المخابرات الجوية والرئاسية، والعسكرية والمحلية والقوادين؟ حرام عليك، لماذا هذا الظلم؟ أنا أخشى منك حقا على ما بقي من بركة عمر أمي العجوز وأبنائي وأحفادي؟
القضية هي قضية فساد، وبقطع النظر عن أن الفساد لا يؤمن أصلا بالترتيب العمودي للإديولوجيا، بل يخترق الجميع أفقيا، فإن هذا الحديث الذي يقوم على التعميم جعلني أعود إلى أصول نظريات العيش المشترك، بدائيات العقد الاجتماعي لجون جاك روسو، استنفذ نظريات علم الاجتماع إلى أن أصل إلى المؤسسات الفكرية للفاشية والقمصان السود Squadrismo في إيطاليا وما تلاها من الفاشية العرقية والنازية، إنها ثقافة متكاملة للعلاج المزيف للأزمات بجعلها مآسي لا تشفى إلا بعد مرور ثلاثة أجيال من الانتقام، حسنا، لنعد إلى أصل الموضوع، لقد "امتنع الاستاذ سيف الدين مخلوف عن الجواب في أصل الموضوع خلال جلسة الاستنطاق في ملف ما سمي بواقعة المطار واعتبر أن المحكمة العسكرية غير مختصة في محاكمة المدنيين وأن العمل النيابي محصن وحصانته لا يمكن تعليقها وأن الانقلاب بصدد استعمال القضاء العسكري في تصفية خصومه السياسيين وأن النواب والمحامين مستهدفون بدرجة اولى، وطلب من الثلاثين زميلا وزميلة الذين حضروا لنيابته أصالة ونيابة عن فريق دفاعه ان لا يكونوا شهود زور في محاكمة سياسية وصورية، وبالتالي وبعد تقديم السيد رئيس الفرع الجهوي للمحامين بتونس لملاحظاته الشكلية انسحب من حضر من فريق الدفاع"، وفق ما جاء في تدوينة الأستاذة المحامية،
وحتى كتابة هذه الأسطر، لم أسمع عن ملف فساد واحد تم تقديمه ضد النهضة كحركة، أو كأشخاص، أو ائتلاف الكرامة ،أو أي حزب آخر وخصوصا ما يبرر التنكيل بالنائب ياسين العياري أو يسري الدالي ولا حتى زهير مخلوف الذي لا يمكن محاكمته خارج قوانين الأخلاق الحميدة في أسوأ الحالات أو فيصل التبيني، وكل ما ينسب لهم يمكن في أسوأ الحالات أن ينتهي بخطايا مالية،
أي، خويا، أنا صحفي، متهم بالزقزوقي وفق ما صرخ به كثيرون ورائي في أروقة الإذاعة التونسية العمومية في 2013 فقط لأني حرصت في تحليلي الصحفي المهني أن أذكره بصفة الرئيس المرزوقي، ووفق ما يكتبه زملاء قريبون مني جدا، يعرفون أني لست مع النهضة ولا مع أي شكل من أشكال الولاء السياسي أو حتى الفكري، أنا رجل حر ينتمي إلى سركونة الحرة إنما الحزينة بسبب الجفاف، يؤلمني الجفاف أكثر من الديكتاتورية، إنما أعرف أن تراجع الرجال والعقول الحرة عن النضال أكثر فداحة من موت النحل وتوقف المطر، الله لا يعطي المطر مع الطغيان والظلم، أنا أصلا أكتب هذا النص اعتذارا لله عن حماقات فردية في الصمت عن "خماج" لم يحترموا فينا حتى الحد الأدنى من الاختلاف،