قرأت مرة أن المترجم الياباني لرواية "الخبز الحافي/ زمن الشطار" للكاتب المغربي محمد شكري التي ترجمت إلى أكثر من 25 لغة كان ينظم رحلات سياحية من اليابان إلى مدينة طنجة لرؤية البستان الذي يروي الكاتب كيف كان يتسلل إليه وهو مراهق متشرد لسرقة التين وسحر بابنة صاحب القصر تستحم في المسبح الفاخر حتى سقطت حبة التين من فمه المليء باللعاب، تتضمن الزيارة أيضا التسكع في أثر الكاتب في ميناء طنجة الخرافي الساحر منذ تجمع قوى الحلف في الحرب العالمية الثانية فيه وتحول المدينة إلى مكان عالمي للجواسيس والقراصنة والتهريب وصناعة السلطة،
ومما يروى من طرائف الكاتب الكولمبي الخالد ماركيز أن سائحا روسيا قال له إن شركات سياحية تنظم رحلات مكلفة إلى مدينة ماكوندو، وهي قرية اخترعها الكاتب في رواية مئة عام من العزلة ولا وجود لها في الواقع أبدا، وقد كشف الكاتب أنه نسي في أي ظروف اخترع اسمها فعاد إلى الموسوعات العلمية الذي اشتراها له جده ليكتشف أنها اسم شجرة منقرضة، لكن لا أحد من عشرات الملايين من عشاق الكاتب الخالد يخير الواقع الجاف على جمال الرواية،
أنا نفسي كنت مسحورا في أول زيارة لي للقاهرة بسبب التأثير العميق لروايات نجيب محفوظ خصوصا القاهرة الجديدة، ثلاثية بين القصرين، قصر الشوق والسكرية، ولأن الذهاب إلى المقهى الذي كان يجلس فيه أصبح عملا تجاريا بذيئا، فقد اخترت أن أشتري نسخا رخيصة من رواياته وأمشي في أثر سي السيد أحمد عبد الجواد وتيه ابنه كمال عبد الجواد في حواري وأزقة الحسين حتى ساحة العتبة أو الحسين والسيدة زينب ومن هناك حتى جبل المقطم والخرابات والمدافن وعوالمها الغامضة حتى مقام الإمام الشافعي،
أيضا عندما زرت لبنان منذ حرب 2006، حرصت على البحث عن الصورة الساحرة من أدب ميخائيل نعيمة عن الريف كما ردسناه في كتب الابتدائي وهو شيء يمكن رؤيته واقعا منذ معبر المصنع شمال لبنان حتى آخر قرية في الجنوب وأغاني فيروز عن الضيعة والجبل ويا حجل صنين في العلالي الذي ظللت أغنيها خطأ "يا حجل، طليت من العلالي"، جلست على جبل صنين ثاني أعلى جبل في لبنان2695 مترا مطلا على سهل البقاع العظيم حيث أكلت دبابات الميركافا الصهيونية أول مجزرة في تاريخها العسكري، مستحضرا تاريخا من الأدب والفن الجميل النبيل، "لحمك يشوك" وأنت تسمع الصوت الملائكي للفيروز موال: "أوف أوف يا حجل صنين"، قصة المقاتل العاشق المشتاق الذي لا يدري إن كان يعود حيا أم يحمل المقاتلون ما بقي منه إلى أمه فيما تبكي حبيبته في صمت،
أذكر أني أعدت مقطعها الأخير مرارا مخدرا بالصوت والصورة حيث الحب أقوى من الموت: "بَيتهُن عَ مطلّ، هاك القاطع، عالدني بيهلّ، بابُن واسع، وانا بدّي فلّ، صوبُن راجع، وانتا وحدك ظلّ، يا حجل"، وأنت وحدك ظل، ابقى وحدك أيها الحجل، أفضل من أي مسلسل حب تركي سخيف، آه وخصوصا أغنية "بيي راح مع العسكر"، التي تخلد تاريخ قرية عنجر في قتال اللبنانيين بكل طوائفهم ضد الغزاة منذ الحروب الصليبية على لسان طفلة تمجد أبيها المقاتل: "خدتلّك زوّادة، عالكرم الْـ بالوادي، قلتلّك خبّرني حكاية حكيتلّي عَ بلادي، شفت جبال الْـ عم تتمَخْطَرْ، ومزارع تخضرّ وتكبر"، والله شفت،
هل نحن بلا تاريخ ولا أدب يستحق التمجيد حتى نستنجد برابور على حافة الأمية؟ أش بيها صليحة وهي تخلد أحد الأحداث المهمة في تاريخ تونس على خيل سالم باش روحتوا لي؟ أو "على العزابة" في تيه الأم في أثر ابنتها التي أخذها لصوص الطرقات؟ والخمسة الذين لحقوا بالجرة في أثر البطل الدغباجي لا تشرفكم؟ ورواية البشير خريف لحياة الجريد في في "الدقلة في عراجينها" لا تستقيم مع الصورة النمطية لكم؟ أم أن ثقافة الريف من وراء البلايك واجتماع رجال المقاومة في جبل سمامة لا يعني موظفي الكساوي المحزوقة على البطن العائشة بالقدر مع السباط من ذوي الحظوة من المسؤولين على الثقافة الوطنية فلم يجدوا ما يقدمونه تمثيلا لتاريخ الوطن غير رابور؟
هل لأننا ليس لدينا ما نرويه أو نعطيه معنى عن حياتنا الإنسانية الصغيرة، أم لأن هذه الدولة لا تملك غير أدوات سطحية سخيفة لتقديم العالم وإعطائه معان سخيفة، ويترك لنا موظفوها اعتقادا راسخا أنهم لا يقرأون ويكتفون من جمال هذا العالم بما يقدمه لهم موظفون ليس لهم أية أهلية للجمال أو الأدب أو أي شيء،
كل واحد شكون يعرف، واحد يعرف الكتاب وصناع المعنى، من بعد تحب تكلف رابور بتمثل تراث تونس وتاريخها، أنت تعرف خير منا، أنت كلفتك الدولة بذلك وأنت تخلص لأجل ذلك، اش دخلنا؟ هي دولتنا أصلا؟