عام 2001، أتاحت لي مهنة الصحافة حضور أحد اجتماعات التحرير الأكثر شهرة في أوروبا في جريدة ليبيراسيون الفرنسية في أحد أيام نهايات شهر ديسمبر التي كانت الأكثر بردا في تاريخ أروبا منذ أكثر من نصف قرن، التاسعة صباحا في مواجهة الصحفي المؤسس سارج جولي، وقد ذكرني مباشرة بالراحل صلاح الدين العامري، مؤسس دار أنوار وجريدة الشروق وصانع الصحفيين، عندما كان يجتمع بنا مع رؤساء الأقسام والتحرير لكي يجدد حياة الجريدة عندما يدرك أن محتواها انخفض عما يجب أن يكون،
وذكرني بمدرسة عظيمة في صناعة الصحافة والصحفيين وبتلك التراتبية الرائعة التي تصنع الصحفي ورئيس التحرير الذي لا يمكن أن يتخرج من أية مدرسة، بل تصنعه المهنة بعد 17 عاما من الممارسة في قانون الشغل التونسي مثلا، يعني بعد أن يعيش ثلاثة انتخابات رئاسات وثلاثة انتخابات نواب وفي الأثناء أحداثا جساما مثل الفيضانات والكوارث الطبيعية والإشاعات دون اعتبار المظاهرات العنيفة والانتقال الموجع للسلطة في العالم العربي وحضور مرافعات المحامين في عشرات المحاكمات السياسية، يخرج منها بتجارب ليست ملكه بل ملك المؤسسة التي تستثمر فيه،
سارج جولي كان في زمنه أسطورة حية من المواقف القوية لأنه حول جريدة ليبيراسيون التي أسسها الفيلسوف اليهودي من أصل مصري بني ليفي من مجرد نشرية ماوية لجزء صغير من الطلبة إلى جريدة محترمة ذات رؤية صحفية عميقة بمساعدة المفكر الكبير جون بول سارتر، بل جعل منها منافسا جميلا لجريدة لوموند حتى أننا كنا نشتريهما معا، وكان كثيرون يعتقدون أنه أصبح مثل سارتر أحد مكونات الثقافة الفرنسية، وثمة اعتقاد بأن رؤساء التحرير في الصحف يصبحون مع الوقت تراثا وطنيا، حافظا للذاكرة والمواقف، هذا عند الشعوب التي تؤمن بأهمية صناعة الرأي والموقف،
سارج جولي، كان يبدو عليه أنه أقل من عمره بكثير، إنما كان يملك شخصية جذابة يكشف لك عندما يتحدث عن المعرفة والإطلاع والخبرة والقدرة على استباق الأفكار والأحداث والاختزال "يجيب من الآخر" كما نقول في الصحافة، وكان يوحي لك أن عنده حلولا لطريقة معالجة أي أزمة في بلاده بصفتها موضوعا صحفيا إنما بنزاهة صناعية مع خلفية مناضل شيوعي ثم اشتراكي ثم إنساني وهذا حقه، وراء مكتب صغير في قاعة كبيرة مليئة بالكتب والنشريات، لا تدوم اجتماعات التحرير مع les chefs de rubriques أكثر من عشرين دقيقة، يتم فيها تقرير الموضوع الرئيسي للجريدة وتصميم الصفحة الأولى التاريخية Style focalisant، الباقي يخصصه للقراءة والكتابة، ماكينة عمل جيدة وقوية وجريئة تبدأ من اختيار المحررين وصولا إلى ارتقائهم المهني وأجورهم واحترام تراتبية المهنية التي قامت على إيجاد الحلول الصحفية لمختلف الأزمات التي تعالجها الصحيفة،
في تونس، عندما قامت الثورة، دخلت في مفاوضات مع رجال أعمال من أجل إعلام بديل، بعضهم خارج تونس عنده الفلوس بالكدس لكنه يؤمن بصحفي أبو ربع دجاج وأربعة بيرة في أسوأ الحالات وكثير منهم لا يفرق بين الصحافة والسحر، من أجل إنشاء مشاريع صحفية، أغلبهم المطلق لا يرى أي مبرر للبحث عن شخص مثل سارج جولي لمصارعة التوجه الإيديولوجي الماوي لمؤسسة الجريدة أو عن صحفي أثبت كفاءته ونزاهته المهنية على أكثر من 15 عاما، كل ما يريدونه هو شخص يسمع الكلام والتعليمات وتغيرات المزاج السياسي والمالي وتحالفات الفساد والتهرب الضريبي،
قلت لواحد من هؤلاء: عندما تنهش الضباع لحمك حيا، لن تكفي أموال العالم لإنقاذك، كان يفضل إنفاق أمواله الطائلة على الكرانكة وأصحاب الوجوه القصدير، لم يهتم بمعرفة أحد من صناع الأخبار الحقيقيين، ممن يملكون الشجاعة للقتال والثبات على مبدأ وفكرة والقدرة على البحث عن الحقيقة مجردة، عندما تهين رجالك ستطمع فيك الضباع أيها الضبع،
عندما تعذر عليهم العثور على مثل هذا الشخص، استثمروا كل أموالهم في الكرانكة، الهاربين من مهنهم الأصلية ممن عندهم القدرة على تبين مصدر السلطة والذهاب إليها مباشرة ومنحهم أجورا خيالية على قدر شراستهم في عض خصوم سيدهم، أما مهنة الصحافة، فلها ذلك الجيش المجهول من الزملاء الذين يقتلون أنفسهم من أجل ملاحقة الأحداث ثم يبقون بلا أجور لأشهر، يدفعون من جيوبهم للاستثمار في الأحداث صيفا وشتاء وفي الكوارث والفيضانات وفي العلاقات العامة ويدفعون "كاش" ثمن السمعة السيئة للكرانكة، الذين يتمتعون بالتعاليق الغبية السخيفة، طلبا لفلوس صاحب القناة، في غياب شخص بوجاهة سارج جولي وقدرته على جلب الاحترام مقابل صحافة محترمة، كاتبة وصانعة تاريخ، لديها القدرة على إعطاء معنى لما يحدث لنا، يا رب، هل هذا صعب على هذا البلد الكئيب؟
أتذكر كل هذا، متحسرا على لجوئي هذا المساء إلى قناة أجنبية لمتابعة أخبار بلدي ومد يدي إلى الحل التاريخي "الكوموند" لإطفاء التلفاز والذهاب إلى المقهى لكتابة هذا المقال،