مرة، جرني الحديث مع قاضية فاضلة في آخر التسعينات عن ظروف عمل القضاة، قالت لي: "لا أسمح للصحافة بالبكاء على القضاء، إن لم ندافع نحن على القضاء في الإطار المناسب، فلا مبرر لإذلاله بتحويله إلى ضحية تتطلب الشفقة"،
لكن ضعف القضاء ليس في ظروفه المادية السيئة، بل في سلطته في حد ذاتها، فبقدر ما أعطته مجلة الإجراءات من سلطة على حقوق الناس، بقدر ما حولت تلك السلطة من القضاء إلى أعوان الأمن عبر "الإنابة العدلية" والتعليمات حتى أن صديقا كان أحد أشهر قضاة التحقيق في تونس قال لي مرة: "je suis un super flic" بما يعنيه ذلك من رؤية وعقيدة أمنية وطريقة عمل،
أنا أدركت المعركة التاريخية في تونس بداية التسعينات في الانتقال الفاشل من محققي البوليسية الذين لا يمكن الطعن في محاضرهم إلا بالتزييف، لإنشاء "شرطة عدلية" يكون أعوانها تابعين لوزارة العدل تحت ضغط وشروط المانحين والدائنين من أجل فصل حقيقي بين السلطتين التنفيذية والقضائية، كل ما فعلوه هو وضع أعوان شرطة عاديين تحت سلطة غير حقيقية للقضاء، لأن من ينتدبهم هي وزارة الداخلية، وهي تكونهم وتخلق لديهم تلك العقيدة الأمنية التي نتعارك معها منذ عشرات السنين، وهي التي تدفع أجورهم وترقيهم وتصنع مسارهم المهني، لذلك بقي ولاؤهم الحقيقي والوحيد لها ولسياسات من فيها وليس للقضاء،
ولذلك فإن أكبر صعوبة يواجهها القاضي هي الإفراج عن شخص أوقفه أعوان الشرطة، "نحن نوقفوا وهم يسيبوا"، في صراع صعب بين طريقة الأمني في الإيقافات العشوائية وانتزاع الاعترافات دون حاجة إلى أدلة خارجية وتفكير القاضي في أولوية البراءة وبناء الأركان المادية والمعنوية للتهمة، وبعض القضاة يبدأون بالطريقة السهلة: "تعترف عند البوليسية وتجي هنا تنكر؟"، السلطة الحقيقية للقضاء تخرج من يد القاضي إلى البوليسية منذ إسناد الإنابة العدلية، فإذا كان القضاء يقوم على إسناد الإنابات العدلية، فهل سألت الدولة نفسها عن نتائج هذه الإنابات العدلية وزمن إنتاجها، ومدى قدرة القضاء على التحكم فيها؟ حاولوا أن تسألوا عن المحاضر الأولية للحادثتين الإرهابيتين الشنيعتين في متحف باردو وفي سوسة لكي تفهموا حقيقة ما يحدث،
ولكي يكون الإنسان نزيها، يجب أن يعترف بتفشي نوع من الحماية القطاعية التاريخية في القضاء، "إنهم لا يسلمون بعضهم"، تماما كما فعل أعوان الأمن في سابقة من أخطر ما يكون حين حاصروا حتى منتصف الليل بأسلحة الدولة ومعداتها قضاة محكمة بن عروس لتخليص زميلهم من المساءلة القضائية وكما يفعل ممثلو عدة نقابات، ومن باب النزاهة أيضا، ثمة قضاة يبحثون عن المنافع أو الحماية لدى السياسيين والمتنفذين،
لكن، حين أحاول اختزال رواية إصلاح القضاء في تونس، أتذكر مشاهد متتالية: هيئة محكمة تدخل الجلسة بـ 360 ملفا في الجلسة الواحدة بسبب النقص التاريخي في عدد القضاة مقارنة بعدد القضايا، قاضيان يتقاسمان طاولة مكتب، محاكم بصفر ميزانية تصل إلى العجز عن إصلاح آلة طابعة، حاكم تحقيق يحمل ملفات ضخمة عن الخامسة مساء ليتم العمل في البيت، قاضي تحقيق لا يجد وسيلة نقل قضائية للمعاينة بل يجد ثلاثة سيارات رباعية الدفع لأحد طرفي القضية جاهزة لتأمين نقله في أفضل الظروف، لكن مع أحد طرفي القضية، لكن أيا كان توصيف وضع الفقر في القضاء، فهو مخل بكبرياء القضاء كما رأت القاضية الفاضلة، لكن الأخطر فيه، هو من يصنع القرار القضائي حقا؟ هل هو القاضي أو أعوان الشرطة؟