الآن بعد أن حطت الحرب الوهمية أوزارها، وانتهت حملات الاستفتاء على الدستور بلا مفاجآت، اسمحوا لي بالبدء بجملة السيد الرئيس في شارع بورقيبة يوم أمس: "الشعب التونسي يحقق اليوم الانتقال من حالة اليأس والتفقير والتنكيل"،
حسنا، لنأخذ الأدوات الدنيا من تحليل الخطاب، سواء كان البنيوي أو السيميائي أو حتى السيمنطيقي، أول ملاحظة منهجية: هذه الجملة على طولها منقوصة مثل الكثير من جمل السيد الرئيس، ينتقل من حالة اليأس والكذا إلى ماذا؟ لنفترض الأمل والرخاء والكرامة؟ ثم: إن عبارة "اليوم يحقق"، أي 25 جويلية، شديدة الدلالة هنا، لأنها التزام ومسؤولية تعاقدية في الزمن، بداية من 25 جويلية 2022 لبدء فعلي للانتقال من حالة إلى حالة أخرى مختلفة إلى درجة التضاد، إذن ماذا كنا نفعل منذ الأمر 117؟ وهنا، يجب أن لا نذهب وراء سراب أن إصدار دستور يجمع السلط في يد الرئيس سيكون له علاقة سببية بتغير وسائل إنتاج الثروة أو إعادة توزيعها،
أيا كان النقاش حول السلط في الدستور، فأنا أنظر إلى المؤشرات التي لا يمكن الاختلاف حولها: المنوال الاقتصادي الذي بلغ عمره 60 عاما والذي يقوم على ربط المبادرة الاقتصادية بالإدارة البيروقراطية والتراخيص والباتيندة والاحتكارات والجباية الجزافية الرمزية من جهة والضغط الجبائي الفاحش من جهة أخرى مقابل المراهنة على الإنتاج الرخيص للتصدير في السياحة والفلاحة والصناعات ذات اليد العاملة الرخيصة من أجل العملة الصعبة بما خلق اقتصادا موازيا خارج النظام يزيد حجمه عن نصف الناتج المحلي الخام، أنا أنظر إلى مؤشر ربع مليون تونسي يغادرون سنويا منظومة التعليم مبكرا أو بالشهائد التي لا علاقة لأغلبها بسوق الشغل يطالبون بالشغل في اقتصاد لا يحقق حتى 40 ألف موطن شغل سنويا، أنظر إلى فشل 80% من مبادرات الشباب لإنشاء مؤسسات صغيرة بسبب المركزية البيروقراطية والأسواق المغلقة على الاحتكارات والتوريد العشوائي المحمي بالدولة نفسها،
أنظر إلى بلد ينتج أقل من نصف كلفة استهلاكه السنوي، بلغ فيه العجز التجاري في نصف العام الأول 6 مليار دولار (18.2 مليار دينار) يعني كريدي التوريد من الحبوب والزيوت والمحروقات والأدوية وغيرها، وينتظر أن يبلغ العجز السنوي 12 مليار دولار (36 مليار دينار) مقابل ميزانية انطلقت بفرضيات إدارية لا علاقة لها بالواقع بـ 57 مليار دينار،
ثم، لكي تأخذ صورة أكثر دقة عن الوضع، يجب العودة إلى قانون الاستثمار المعروف بعدد 71/2016 والذي قدمت فيه الإدارة واللوبيات التقليدية تنازلات موجعة من أجل تحرير إنتاج الثروة، إلا أنها واقعيا بقيت حبرا على ورق، عمليا: عجزت الدولة في كل محاولاتها غير الجادة على اقتحام حتى الموانئ ومازلت الأسواق غارقة في السلع الصينية والتركية وما يزال الوضع الأفضل لرأس المال التونسي هو التوريد العشوائي السريع بدل معاناة البيروقراطية الإدارية والضرائب الفاحشة أو الانخراط في المشاريع ذات الباتيندة: مقهى، حانة كان أمكن أيا كان ثمن الرخصة،
إن الخلاصة الوحيدة لجملة السيد الرئيس هي أن تحقيق الانتقال من حالة اليأس "والشيء والكذا" إلى ما افترضناه من حسن النية، تحتاج "حربا موجعة" لا تقل عن سبع سنوات من تفكيك المنظومة وتغيير القوانين والثقافة الحكومية وخصوصا ممارستها وتطبيقها على الجميع، وهذه الحرب لا تحتاج جملة خطابية بقدر ما تحتاج مؤشرات لم نر منها منذ 25 جويلة 2021 مؤشرا واحدا للانتقال، باستثناء حل البرلمان وهيئة مكافحة الفساد والمجلس الأعلى للقضاء وهي مؤشرات لا علاقة لها بصناعة الرخاء أصلا، ولا إجراء وحيدا منذ إصدار الأمر الرئاسي عدد 117 الذي احتكر فيه السيد الرئيس كل السلط وكل الصلاحيات دون أية إمكانية للمعارضة أو الطعن لكنه لم يفعل شيئا لتغيير الواقع اليومي، هل سمعتم السيد الرئيس يتحدث يوما عن مشروع إصلاح اقتصادي؟ عن حلول للوضع الذي يزداد قتامة كل يوم؟ سواء في الأزمات أو في نظم الحكم الرشيد يقدم الرئيس خبراء الحلول الاقتصادية الذي يثق بهم وهم يقدمونها للناس لكي يكونوا على بينة من الأمر ويستعدوا لتقبل التضحيات من أجل تجاوز الأزمة، فهل رأيتهم شيئا من ذلك؟
ماذا سيغير الدستور الجديد في واقع إنتاج الثروة في تونس؟ أية علاقة لجملة السيد الرئيس بواقع المؤشرات؟ من باب النزاهة: لا علاقة، وهذا النص كما ذكرنا في البداية: لا علاقة له بالدعوة إلى الاستفتاء على الدستور الجديد الذي تم دون أية مفاجآت،