الحقيقة المرة أنه لا أحد، سواء قبل 25 جويلية أو بعدها، يملك حلا جاهزا للخروج من الأزمة التي نحن فيها، وتعريفها بسيط جدا: نحن شعب ينتج 100 وينفق 120، عجز يتم تعويضه بالقروض الداخلية والخارجية وشاشية هذا على رأس هذا لتأجيل المواجهة، يتراكم العجز والديون إلى أن يقول لك الناس: باسطا، لن نقرضك لأننا نشك في قدرتك على الخلاص ولن نبيع لك إلا بالدفع المسبق، ومن هنا جاءت أزمة التزويد من المواد الأساسية إلى نصف المصنعة إلى المصنعة، لأن أصل الأزمة هو الإنتاج،
ومن باب النزاهة أن نقول إن السيد الرئيس قيس سعيد لم يقدم وعدا لأحد بأي حل لهذه الأزمة خصوصا على المدى الراهن، لا في حواراته سنوات الحرث السياسي الخفي في المقاهي النائية ولا في حملته الرئاسية، ثم إننا ندرك الآن جيدا أنه بعيد جدا عن سياسة الاقتصاد وعنده مشكل حقيقي في الوعي بالأرقام، وكنا نرجو على الأقل أن يحيط نفسه بأصحاب حلول وبقادة رأي يمكنهم أن يقدموا لنا حلولا ويسوقوا لنا فكرة التضحية لبضعة أعوام حتى نخرج من الأزمة لكن،
يمكنكم أن تروا أن أكثر المتحمسين إليه يشكون من غياب أية خطة اقتصادية سوى تسيير اليومي الكارثي ورغم أن الحكومة بكل مكوناتها هي مجموعة موظفين عند السيد الرئيس فلا أحد سأله منذ الـ happening متاع 25 جويلية عن الحل الاقتصادي أو المسؤولية في استمرار الوضع السيئ. علاقة السيد الرئيس بالاقتصاد اقتصرت على التوصيف الشعبوي للفساد واختزاله في المحتكرين والغرف المظلمة فاختار مختصين في الإنتاج السينمائي لإخراج بعض المداهمات الدرامية الليلية مع تصوير فضائي ليلي، وحكاية المحتكرين في تاريخ السياسة الحديثة هي أسلوب مراوغة اعتمدته الحكومات الفاشلة لتوجيه الرأي العام عن المشكل الحقيقي الذي هو نظام الإنتاج وعلاقة الدولة بخلق الثروة وإعادة توزيعها لأن نفس القوانين ستنتج نفس الفساد.
في مصر قامت حملات إعلامية في زمن عبد الناصر لشيطنة المضاربين ورموز الرأسمالية من أجل التأميم ثم السادات باسم الحرب على "القطط السمان" التي لم يخل منها عنوان في صحيفة، وقامت الصحافة بدورها في تهييج الرأي العام، أي؟ والنتيجة: تضاعف الفساد وازداد الفقراء فقرا والأغنياء غنى، ومن طرائف ذلك الزمن أن الصحافة المصرية احتفت بقانون "من أين لك هذا"، فكتب الصحفي أحمد رجب بطاقته نصف كلمة أن "جماعة تطبيق القانون أمسكوا أحد الذين استثروا في الظلام وسألوه بصرامة: من أين لك هذا؟ فقال: هذا من فضل ربي، فقالوا له: ونعم بالله، كريم"،
وهو شيء يمكن أن يحدث لأي فاسد في تونس، الجميع يعرف أنه استثرى من الفساد لكن لا أحد يحاسبه ويكفي السؤال عن مآل مئات قضايا الفساد منذ 2012، هكذا يسير الأمر في العالم العربي: كلما فشلت الدولة اخترعت معركة درامية مسلية، لكنها غير مثمرة أبدا.
أي رجل اقتصاد سيقول لك عن اختزال أزمتنا في المحتكرين والغرف المظلمة بأنه كلام بعيد جدا عن الخزمة، علميا لا يمكن تفهم الاحتكار إلا في حالة الحرب وانقطاع سلاسل التزويد، غير ذلك هو موجود لأن الدولة تسمح به وهو جزء من نسيجها مثل التوريد العشوائي وتجارة القلم والتهرب الضريبي وتبييض الأموال وغيره من نتائج "القوانين المنظمة للإنتاج" وليس سببا،
لذلك فإن تحويل الاحتكار إلى شعار معركة سياسية هو عمل درامي أكثر بساطة من دراما صراع الخير والشر في فيلم هندي من السبعينات، بل تكون له نتائج كارثية طويلة المدى، ليس لأننا لم نعالج المشكل الأصلي فقط، بل لردة الفعل العكسية كما في حالة مخازن البطاطا التي انتهت بالتوقف عن التخزين الموسمي وقت الوفرة، خسر الفلاح وسنشتري نحن البطاطا بضعف ثمنها الأصلي، النتيجة: كما حدث في مصر أيضا: سيكون على كبار الفاسدين أن يغيروا من أساليبهم وأسمائهم فقط، لكي يتأقلموا مع الوضع الجديد، لا غير،