يذكرني ما يحدث هذه الليالي الشاقة بما كتبته في 2013 عن ظهور مجموعات "بلاك بلوك" في مصر ثم في تونس، للاختلاط بالمتظاهرين السلميين واستهداف الممتلكات العامة والخاصة وأعوان النظام العام، مجموعات عنقودية وملثمون بلا هوية يعرفون بعضهم باللباس الأسود والعنف الممنهج، ظهروا أول مرة في المدن الكبرى في ألمانيا الشرقية بعد التوحيد تحت شعار "الدفاع عن أماكن الحياة العامة ضد تدخلات البوليس" ثم تلقفت مجموعات الضغط المعولمة للاستثمار في مشاعر إحباطهم،
آخر ما أذكره عنهم أنهم أفسدوا احدى أنبل الحركات السياسية الاجتماعية في فرنسا "السترات الصفراء" في 2018 حين اختلطوا بها وحولوها إلى عمليات نهب وتدمير فاضطروا قادتها التاريخيين من نقابيين ومفكرين إلى الانسحاب، لا تستغربوا: لقد ظهرت مجموعات بلاك بلوك في تونس في 2013 ووصلت حتى مدينة الكاف المدمرة المنسية، وثمة كتاب أوروبيون يعتقدون أنها من إنشاء مخابرات دولية لإفساد أي حراك اجتماعي بخلطه بالفوضى والسرقة والدمار والموت، لكن أية علاقة لهذا بما يحدث في أحيائنا الشعبية كل ليلة؟
أحب أن أعود إلى مشاركتي في عمل إخباري تلفزي في 2014 حول ثقافة underground في الأحياء الشعبية للعاصمة: كنت مذهولا إزاء عالم كامل يعيش خارج وضد النظام العام والدولة، رسوم وأوشام وفيديوات وشخصيات حربية سوداوية غامضة وأشعار من الراب إلى الهيب هوب إلى البلاك ميتال تتغنى بالفوضى الحرة والعداء لكل ما هو أخلاقي أو قانوني ومنظم،
تحت الأرض وبعيدا عن الضوء، ثقافة انعزالية متكاملة تقوم على الأناركية، الفوضويون في تعريفنا القديم، لأنهم يرفضون التسمية الكلاسيكية نحو مفهوم "اللاسلطوية، رفض التسلسل الهرمي في المجتمع بحجة أنه غير عادل والدعوة إلى نظام أفقي في "مجتمعات من دون دولة مبنية على أساس جمعيات تطوعية غير هرمية"، جمعيات أو تنسيقيات، هل يذكركم هذا المفهوم بشيء أو شخص ما؟
أساسا، ومن الناحية المنهجية: هل يعتقد أحد منكم أن "لصوص المغازات الليليين" يعرفون هذا الكلام؟ هل نحن إزاء الفكرة العنيفة، لكنها فكرة، وهي الحرب على الشكل الحديث للسلطة في مظهرها المباشر أي النظام العام، أم إزاء سرقة ممتلكات الآخر أو تدميرها بما هي سلوك خبيث شرير بدائي ثم مخالف للنظام العام والعيش المشترك الذي اتفقت عليه البشرية،
الفرق واضح، ما هو غير واضح هي الغطاء السياسي الانتهازي الذي قرأته مثلكم لعمليات النهب والتدمير الليلي على أنها "احتجاج شبابي" على الأزمتين الاجتماعية والسياسية رغم أن أهم مبادئ اللاسلطويين أو "الأفقيين" هي "لا حزب ولا نقابة"، فقط، المشهد فيه موقف سياسي انتهازي خبيث أيضا: "عدو عدوي في السلطة هو صديقي" مؤقتا، لإطلاق الفوضويين على أمل الإطاحة بالسلطة القائمة،
المشكل أن أنصار هذه النظرية لن يجدوا شيئا يحكمونه إذا ما تمت الإطاحة بالنظام العام، إذا ما عثروا، مثل صياد فاشل على "نمر السلطة مقتولا" بعد كثير من الدماء التي ستستدعي المزيد من الدماء، فسيحتاجون إلى كم غير محدود من العنف الأهلي وإلى زمن طويل لإعادة اختراع الدولة من جديد. أي ثمن يريدونه من أجل السلطة؟ أكثر مما تجبرنا عليه داعش؟