أيا كان الأمر اليوم، فقد كانت روح القاضي الفاضل مختار اليحياوي ترفرف على سماء محكمة تونس، ليس من أجل التفاصيل والأسباب، بل من أجل المبدأ: استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية التي تأتي منها كل شرور التعسف في استعمل السلطة والاستبداد، لا تحتاج السلطة من يقف معها أو على يمينها سوى إلى المزيد من العضلات والغاز والعصي والقوانين، بل مقابلها لمواجهة الاحتمال المؤكد لتعسفها في استعمال السلطة مثل أية سلطة (لا شأن لنا بمنتسكيو الآن)، بحثت عبثا عن الصور القليلة التي سمح لي بالتقاطها له في 2011 في بيته والتي نشرت إحداها في جريدة الشروق وقتها، لقد هبت رياح محنته المعلنة حين كتب رسالته الشهيرة إلى الرئيس الطاغية ضد فساد النظام القضائي الذي أقامه تحت إشرافه وبتعليماته بتاريخ 6/7/2001: "جناب السيد رئيس الجمهورية التونسية رئيس المجلس الأعلى للقضاء،
أتوجّه إليكم بهذه الرسالة لأعبّر لكم عن سخطي ورفضي للأوضاع المريعة التي آل إليها القضاء التونسي والتي أدّت إلى تجريد السلطة القضائية والقضاة من سلطاتهم الدستورية وتحول دونهم وتحمّل مسؤولياتهم كمؤسسة جمهورية مستقلّة يجب أن تكفل لهم المساهمة في تحديد مستقبل وطنهم والاضطلاع الكامل بدورهم في حماية الحقوق والحريات.
إن القضاة التونسيين مُقهرون في كل مكان على التصريح بأحكام منزّلة لا يمكن أن ينال منها أي وجه من الطعون ولا تعكس القانون إلا كما أريد له أن يُقرأ"، كان القاضي الفاضل في المكان الصواب تماما لنزاهة القضاء إنما في الزمن الصعب للحقوق والقوانين، بالمسافة الإنسانية المكلفة لوقف تعسف السلطة التنفيذية التي تأكل الحريات، ليس كرها فيها، بل لإكراهات السلطة، فدفع الثمن غاليا، أنا أعرف التفاصيل،
أنا من حقي، صحفيا، كاتبا للتاريخ الصغير للوطن، أن أتذكر كيف كان بوليسية بن علي يفرضون عليه أن يبقي باب مكتبه في الطابق الأول بمحكمة تونس مفتوحا ليكتبوا بدقة ما يفكر فيه، يفرضون على نساء التنظيف تسليم سلة مهملاته إلى أعوان "الفرق المختصة" للبحث في نوايا من راسله أو يحتمل أن يكون حدثته عن مظلمة ما قد يندفع إليها، وسخافات بوليسية أخرى متعددة، كان يروي لي بعضها من باب التسلية، لأنه يرفض التشكي وطلب المساعدة، كان عنده كبرياء قاض حقيقي كوني، لذلك، كم أحب كبرياء القضاة، حتى في أوضاعهم الصعبة،
أموال العالم لا تشتري قاض نزيها، وكان سي مختار أحدهم، لسنا بصدد إحصاء القضاة الذين قاوموا من أجل ضمير القضاء، لكني لا أحب أن أكتب شيئا دون أن أدعو إلى شيء يقدر تضحيات قاضيات مثل السيدتين روضة القرافي وكلثوم كنو، نيابة عن غيرهن وغيرهم، من مناضلي القضاة الذين شردهم الطاغية بن علي ثم أمر أعوان البوليسية بمداهمتهم ليلا بحجة أن بيت أحدهم (متزوج وله أبناء) بشبهة دعارة، يا لدعارة السلطة التي تجترح كل الجرائم للنيل ممن يقف أمام تعسفها التاريخي؟
قبل الثورة وأثناءها وبعدها، كنت أسعد بلقاء سي مختار، متسللا إليه إن عثرت عليه، رحمه الله، في شقته الصغيرة وراء السوق المركزية وضوضائها وكانت لنا محاورات حول القضاء رفض نشرها بعد الثورة، سمح لي فقط بحوار بسيط من ثلث صفحة بعد الثورة مباشرة في جريدة الشروق، محذرا: "أول لقاء لي بك كان تحت عنوان المجالس بالأمانات"، "نعم سيدي الرئيس"، لم يكن يحب العبارة لكنه يبتسم، لقد احتجت إلى وقت لنيل ثقته والاقتراب منه، وقت كان محاطا بالأعداء والمتمعشين من التنصل منه،
كم أحببت كتابة قصة حياته المهنية التي لازلت أعتقد أنها تستحق أن تكون كتابا يدرس للأجيال القادمة في صناعة البطولة والشجاعة والنزاهة والمسؤولية، شرفني مرتين وهو رئيس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية بقبول الإشراف على حصة تكوين صحفيين محترفين حول الحدود بين الحقوق الشخصية والاستقصاء الصحفي، كان وفيا لنفسه ولقيم الحقوق الفردية والعامة حتى أن أغلب المشاركين في دورتي التكوين استغربوا "روحه المحافظة" على الحقوق في زمن الانفلات الصحفي،
أتذكر رفضه المرجعي القاطع لتسجيل التصريحات خفية للعمل الصحفي في مقاومة الفساد، قال لي حاسما: "أنا ضد استدراج الفاسدين إلى الاعتراف بالخدعة، أنت صحفي شجاع؟ إذن اخترع طرقا أخرى غير الكمين"، النتيجة محبطة: لا عملنا صحافة استقصاء التي استولى عليها المشعوذون ولا نجحنا بأية طريقة في الحد من الفساد، لا بالصحافة ولا بنواب الشعب ولا بالقضاء، لو كان "سيدي الرئيس، سي مختار، معنا"، ربما أعطانا طريقته في الخروج من "الكاسارونة العملاقة" للفساد الذي، ليس فقط يأكلنا جميعا، بل يعطي لكل طرف منا مبررا لأكل الآخرين، باسم مقاومة الفساد، وينك "سيدي الرئيس"؟
في الروائح التي يشمها السيد الرئيس
السيد الرئيس: "من اشتَمُّ عليه رائحة الثراء والبذخ ما يقعدش معايا"، المشكل في حاسة الشم، سيدي الرئيس، وهي ليست وسيلة مقدسة ولا موثوق بها عند البشر إلا عند بعض الحيوانات المعدودة، والدليل، طريقة استقالة أغلب مستشاريك لم تكن بناء على حاسة الشم "لا من هنا ولا من هنا" فيما كانت الرائحة الفاسدة تزكم الأنوف الوطنية،
ثم إن المشكل ليس في الثراء في حد ذاته، فهو ليس عيبا، بل في طرق الإثراء وفي دفع ما عليه للمجموعة، عموما، سيدي الرئيس، إن كنت تقصد ذوي الثراء الفاحش الذي لا يدفع ضرائب مقصوصة من الأصل مثلنا، فهم بلا رائحة أصلا وهم في كل مكان، حتى في الصحافة التي يفترض أنها أفقر المهن وأكثرها قتلا دون أن يجرؤ عليهم أحد، عموما، سيدي الرئيس، كان على الرائحة، لديهم القدرة على شراء أفخر العطورات وتزييف حواس الشم السياسية، الباقي: على مراد الله، ودفع الله ما كان أعظم، والله أعلم،
رحم الله الباجي قايد السبسي،
لا أتحمل التشاؤم ومشاعر الإحباط، ولولا التفاؤل والسبع أرواح التي قاتلت بها منذ أكثر من نصف قرن، أحيانا لمجرد الاستجابة لغريزة البقاء على قيد الحياة، لولا التفاؤل والمقاومة لما كنت اليوم أكتب هذا النص، لكني عاجز عن إخفاء مشاعر الإحباط والخوف التي لا أريد أن أكتبها: هذا الأمر السيئ سوف يذهب هذه المرة إلى نهايته، أحس أنها ستكون موجعة حقا، وأتذكر ذلك الرجل الداهية: الباجي قايد السبسي، كان عنده سقف لا يدخل تحته أبدا، ولم يقبل بالدخول تحت سقف دماء التونسيين ولا أوجاعهم، رحم الله الباجي قايد السبسي،