حين تدفع 30 دينارا مقابل كيلو من شلاتيت لحم الخروف (غضاريف وصفاق وشحوم) فتأكد أنك ضحية الاحتكارات الفاسدة التي توزعها الدولة على بعض المحظوظين منذ أن نشأت هذه الدولة، لقد أثمرت بذرة الفساد الحكومي أن أصبحت الكلفة النهائية للحم الضأن 30 د، فيما يباع الضأن الحي على مرمى البصر في أوروبا بمعدل 2.4 أورو للكيلو (7.5 د)، بالنسبة لدخل مواطن فرنسي أقل من ثمن كسكروت، يعني باعتبار مصاريف الشحن والديوانة والرشوة وشراء الطريق والموظفين، لا يمكن أن يتجاوز 20د عند الجزار،
لنعد الآن إلى المحظوظين، لقد ترك الاستعمار الفرنسي البغيض خارطة فلاحية واقعية منذ 1923، فيها تخصيص منطقة السباسب والشمال للمراعي، ثم جاء رجالات الدولة الوطنية لتخريب تلك الخارطة بتوزيع أراضي الأحباس ومراعي العروش على الأصدقاء والحلفاء ومحاصرة مربي الماشية من القبائل على أراضيهم أو طردهم منها بالتأميم ودفعهم إلى النزوح، ثم خلق بورجوازية فلاحية مركزية مزيفة لا علاقة لها بتربية الماشية ولا بالفلاحة فظهرت أكثر الحقائق إيلاما في تاريخنا: "من المهم أن تملك أرضا وتعيش في المدن الكبرى،
لكن ستموت فقرا وحزنا إن اشتغلت بالفلاحة"، فبعد أن أفسدت الدولة تلك الخارطة الفلاحية بإهداء أخصب الأراضي إلى رجالها الذين عطلوها أو حولوها إلى عقارات سكنية أو نوادي أغنياء لنهايات الأسابيع البورجوازية، احتكرت نظام الأعلاف ومنحت رخص توزيعه لكبار موظفيها في شكل منحة تقاعد،
حتى أني عرفت موظفا من ضاحية المرسى أقام ثروة عملاقة من احتكار الأعلاف والبذور الممتازة في ثلاث ولايات غربية لم تطأها قدمه يوما، وعندما انتقلنا من نظام الإنتاج والتوزيع التقليدي إلى أسواق الجملة والتخزين، أنفقت الدولة ثروات طائلة على مخازن التبريد باسم تعديل السوق لكنها ذهبت كلها إلى البورجوازية الفلاحية الجديدة، التي تستطيع أن تدفع الفلاح إلى الجنون أو الانتحار حين تشتري منه البصل بـ 100 مليم وتبيعه لنا بعشرة أضعافه أو تستورد البطاطا المشبوهة من أوروبا الشرقية بثلاثة أضعاف كلفة إنتاجها في تونس أو ضعفي كلفة توريدها من الجزائر، لأنه ليس لمافيا الاحتكار فيها نصيب، هل تعلم مثلا أن أراضي الدولة وحدها، قادرة على تعديل حاجات السوق؟
لا يعجز تونس أن تنتج حاجتها من اللحم الأحمر بثمن معقول، كل ما في الأمر أن الدولة الوطنية الأولى قامت على تحويل الوطن إلى غنيمة بدءا بتحويل الفلاح إلى خماس بائس عند المافيا والسمسارة، وجعل الفلاحة مهنة تعيسة،