على هامش الإيقافات الخطيرة للمراهقين هذه الأيام، أحب أن أحدثكم عن الآلة غير الإنسانية التي تسحق الإنسان الفرد، عن العدالة العمياء التي لا تفرق بين الخطإ الحادث وبين الإجرام، عن النظام القضائي الذي لا يملك هامش إنسانية للسماع بسبب تصميم غير إنساني في مجلة الإجراءات الجزائية، عن حافة الكارثة التي لا يتوقعها الإنسان، لا يعرفها إلا حين يسمع صوت عظامه تتحطم وهي تأكله:
14* جويلية 1986، وقفت، رثا حائرا وحيدا أعزل في الثامنة عشر وقليلا من العمر، مهتزا وفقيرا خصوصا، في آخر جلسة جنائية في محكمة الكاف قبل العطلة القضائية، أمام قاض فاسد، لم أدرك بعد أصلا خطورة الجرائم التي ورطني فيها البوليسية ثم قاضي التحقيق بالتهوين مرة والتهديد مرة أخرى، فحكم عليّ بالسجن خمسة أعوام ونصف من أجل إضرام النار في مبيت معهد تاجروين وتحطيم نوافذه،
*منذ بداية 1986، لم تتوقف المظاهرات في معهد تاجروين الثانوي (يقع على حافة وادي الغربان والحزن والعزلة والحب من جانب واحد) ، انتهت مساء يوم 13 جانفي عند التاسعة ليلا في المبيت بحرق حشية ونصف بلا غلاف كانتا مرميتين في المدرج وتحطيم نوافذ المبيت، أنا أحب المظاهرات ومواجهة الدولة وجئت تاجروين مطرودا للمرة الثالثة من كل المعاهد التونسية محملا بغضب أهلي، لكن دوري ليلتها أني كنت الوحيد الذي يملك وقيدة، مدخن شره منذ وقت مبكر، لا شيء غير ذلك، لم أشارك في أي عمل.
* يوم 13 جانفي، أوقفوني بشكل خاص بتوصية لأسباب يطول شرحها، أوقفوا معي أكثر من 40 تلميذا، اعترفوا كلهم بتحطيم النوافذ واعترف أكثر من عشرة منهم تحت الضربات الأولى بحرق بقايا الحشايا في مدرج المبيت لأجل إحداث الدخان والرعب وإيقاف الدراسة،
*يوم 17 جانفي 1986: بعد أربعة أيام من التعذيب والضرب (كان على القدمين بسوط من ذيل ثور)، بقيت مع أربعة تلاميذ، واكتشفنا أن سيارات فاخرة كثيرة توقفت أمام مركز الشرطة لكي تأخذ الأبناء العاقين، وتترك أبناء الفقراء،
*من 18 جانفي 1986 إلى 14 جويلية منه: بين قاضي التحقيق ودائرة الاتهام ثم هيئة المحكمة الجنائية، لا أحد امتلك الحد الأدنى من عدالة المشاعر الإنسانية لكي يستمع إليّ، قال لي قاضي التحقيق: "يكذبوا عليك البوليسية؟ ساعيدك إليهم"، قال لي القاضي الفاسد: "نلعبوا هنا؟ تستعرف عند البوليسية والتحقيق وتجي هنا تنكر؟" لا أحد امتلك إنسانية القضاء لكي يرى أن الأحداث لا تستحق أكثر من خطية مالية، أن القضاء لم يكن إزاء مجرمين، بل تلاميذ أبرياء، وأن ما حدث كان تنكيلا غير عادل لإعفاء أبناء الأغنياء من المسؤلية، لأني لا مسؤولية لي، عموما: بعد إيقافي، جلبوا في سجن الكاف المدني أكثر من 35 تلميذا من بوسالم وبلطة من أجل الخروج إلى الشارع، أغلبهم لا علاقة له بشيء، أحدهم، عمره 16 عاما، كان مهشما حقا بالضرب فرفض مدير سجن الكاف قبوله، علقه أعوان الحرس بالقيد المعدني في بوابة السجن الخارجية مساء ورحلوا، بكيت وحدي لأجلهم، ثمة أحزان تجعل خيباتك أقل وطأة، حين تعم المأساة، بلد يأكل أبناءه،
*قبلها، أكتوبر 1985: صغت مع مجموعة من الأصدقاء رسالة سرية للتبليغ عن موظف مهم في المعهد في التحرش بتلميذاته، لم يرد أحد على تبليغنا فقررنا مكالمة زوجته التي أعيطناها كل المعلومات عن تصرفاته، فداهمته متلبسا في مكتبه بالمعهد وحطمت وجهه ونظاراته بمحبس ورود صناعية، تحركت المندوبية وفرقة شرطة خاصة من العاصمة لكن لا شيء حدث له،
*نوفمبر 1985: تقدمنا بشكوى سرية ضد موظف شاذ في المعهد لتحرشه الجنسي المستمر بعدة تلاميذ في المعهد، تم إيقافه متلبسا، لكني بعد أقل من شهرين التحقت به في نفس السجن، سخر مني حين نلت عقوبة تجاوزت عقوبته عشر مرات، دولة حقيرة حين ترى الآلة الجهنمية تسحقك وحيدا، فقيرا،
*جمعوا لي كل ذلك، مع أحداث قديمة واستجوابات أخرى في معهدي الكاف الفني والثانوي المختلط لكي يستخلصوا أني مطرود مرارا من كل المعاهد وأني عدت إلى الدراسة بإلحاح من أهلي، وأني كما قال عني أحد أقاربي وكان مدير معهد "لا يصلح للدراسة، عنيف وغبي ولا يسمع الكلام"، حين يجد الإنسان الفرد الصغير نفسه وحيدا في مواجهة الآلة الجهنمية الصامتة، غير الإنسانية حين تشتغل لسحق فرد، كان في مقدور قاضي التحقيق إبطال الإجراءات، تغيير الإحالة، لا شيء كان يستحق ذلك الحماس والحرص الشخصي على تدمير شباب بريء، كان في مقدور دائرة الاتهام إعادة القضية إلى التحقيق لأن التهمة أكبر من الواقع الإنساني، كان في مقدور القاضي أن يستمع إلى الحقيقة، على الأقل، الإنسانية لو أراد أن يبقى له ذكر، لعنة الله عليه في قبره،
* النتيجة: ثلاثة أعوام حقيقية منتقلا بين أسوأ سجون تونس، أحزان أكبر من أن تكتب، قلب ينتفخ "قد هكه" بسبب الأسى وضيق السماء، في العشرين من العمر على حافة الموت حزنا فيما غيرك يحتفل، في مواجهة يومية مع غريزة البقاء حيا إلى الغد (كانت السجون التونسية فظيعة)، البقاء كما أنت، رجلا بتوصيات أمك التي تموت معك ولأجلك، أحزان أهلك عليك محنة لا تقل وطأة عن السجن، لذلك، انتبهوا إلى مصير الموقوفين واحذروا مآلات هذه الآلة الجهنمية،
لقد خرجت بأكثر من 400 ورقة من الذكريات كانت موضوعا لكتاب أحباب الله، لكن كان أملي أن لا يتكرر ظلم أحباب الله، وأن لا نقرأ في تونس ما بعد الثورة كتابا آخر من أدب السجون،