مما أذكره من اللحظات الشاقة في مهنة الصحافة أني اقتربت، من أجل مقال صحفي، من عملية تشريح جثث عدة أشخاص ماتوا في النصف الأول من التسعينات بسبب احتساء خلطة كحولية غامضة مسكرة اسمها الصاروخ في حي شعبي كبير غرب العاصمة، كان مثيرا وصادما أن أرى أدمغة البعض منهم فوق طاولة التشريح، لا حاجة لأن أكون طبيبا شرعيا لأدرك أنها كانت جافة ومتآكلة مثل اسفنجة صناعية قديمة،
لكن شهادات بعض من جاء يسأل عنهم حول اللحظات الأخيرة لما قبل هلاكهم كانت مروعة: فقدان كامل للتوازن، فقدان تدريجي للبصر ثم الظلام النهائي، الرعب والهلوسة والاصطدام بالجدران والحيطان، فقدان الذاكرة، الجنون ثم "أصبح أقل من الحيوان، أصبح جثة لكنه كان ما يزال حيا"،
*
لا أدري لماذا فكرت في ما إذا كانت المشاعر الإنسانية مثل الحب والشوق والحنين والذكريات قد تآكلت كيميائيا في ذلك الدماغ الجاف مثل إسفنجة رمادية على طاولة التشريح، وفكرت أيضا في ما فكر فيه ذلك الدماغ قبل أن يموت: هل عاش مشاعر ندم مثلا وهو يرى الموت؟ هل فكر في آخر أحد يحبه: أمه بصفتها من منحه معنى الحياة، أبناء إن كان له، امرأة انتظرها قبل أن يجف دماغه وأن يموت في عزلة الظلام بتلك الطريقة الجهنمية؟
ضحايا الصاروخ كانوا اثني عشر رجلا، بحثت في قصص حياتهم: أغلبهم كحوليون في حالة عزلة اجتماعية، "لا أحد يحبهم لا أحد يسأل عنهم، الكل يتفاداهم"، احتسوا خليطا غامضا قال خبراء الطب الشرعي أوقتها إنهم عرفوا فيه diluant وبعض مواد التنظيف وكحول الوقود، كان يباع وقتها بثلاثة دنانير لمحتوى قارورة المياه المعدنية البلاستيك ذات لتر ونصف، استسلموا لوعود إدمان غواية النشوة الرخيصة تعويضا عن عالم بائس، على طريقة الفقراء المتكاثرين الذين داستهم عجلة السعادة اليومية،
انتهوا تدريجيا إلى النسيان والإهمال فربطوا مصيرهم اليومي بسعادة الكحول الزائفة: الرحيل إلى سماء متعة الهذيان وإعادة اختراع العالم بثلاثة دنانير، فقط بدل المقاومة وإعادة اختراع الحياة والتشبث بها، لأن الدماغ يطلب المزيد من القوة المهلوسة من أجل تحقيق النشوة: اختراع حبيبة جميلة لأوقات الشدة، استعادة صورة الأم الحنون التي تتحمل الحماقات، العودة إلى الطفولة إن لزم الأمر، الأصدقاء وعلاج الخيانات بالأغاني الحزينة وما إلى ذلك.
لو لم أر بعيني الأدمغة الجافة فوق طاولة التشريح والأكباد المتحللة لما فكرت في البحث في حجم العزلة واليأس الذي يدفع أمثال هؤلاء إلى قتل النفس من أجل ساعات النشوة المسائية تعويضا سطحيا عن غياب الحب إلا في شكل ذكرى مأساوية هاربة، لا يولد الإنسان يائسا، إنما يصبح كذلك بفعل العزلة خصوصا، هل تتآكل العواطف بفعل العزلة أم بسبب كيمياء اليأس؟