أنا مكبّش في حكاية الطبال في عيد الاستقلال في 2023 وقراءتها تاريخيا ثم سياسيا، وهي تذكرني بالطبابلية في أرياف مدينة الكاف المعروفة منذ ما قبل الرومان بالمشروبات الكحولية، حيث تسمع والد العريس، وهو عادة حاج، يقول همسا لمن حوله بكل براءة: "يا خي جابوا الشراب للطبابلية؟"، لضمان حسن الأداء على أساس أنهم غرباء وفنانون مختلفون عنا وأن هذا يدخل في عملهم ولا يلزمنا بشيء،
والحقيقة أن "المعصية" وهي التسمية المشفرة للخمر تهم جزءا كبيرا من العائلة ولا يتم عرس دونها، لكن ثمة فارق ضخم بين "طبابلية جلبوا لهم الشراب" فتخمروا في الغناء وآخرين بلا شراب، حتى أن المعصية تجلب في الزنبيل على البغال من مدينة الكاف قبل أيام وأسابيع وتردم وتخفى مع حاجاتها من اللحوم والفواكه في بيوت العرّاسة وهم رفاق العريس من العزاب والمتزوجين الذين يستغلون الفرصة لاقتراف مثل هذه الموبقات بحجة تأهيل العريس للحياة الزوجية ويؤدون أغان قبيحة (خضراء) في الساعات الأخيرة لما قبل ورطته النهائية بعيدا عن رقابة العائلة الصارمة، والحقيقة أن العريس يصل غرفته منهكا من السهر والضغط النفسي والإفراط في شرب الكحول وغير صالح لأي شيء حقا،
حسنا: الطبابلية هنا في قلب الفضاء العام، بقيت الأسئلة: من هو العريس ومن هو والد العريس (الحاج)؟ وهل جلبوا الشراب للطبابلية لكي يتخمروا حقا ويكون أداؤهم إبداعيا؟ لأننا نحن أصحاب العرس أصحاب أخلاق ولا يجوز لنا أن نطرح مثل هذه الأسئلة غير المناسبة أخلاقيا، يعطي قعرة للطبال،
يعطي قعرة للطبال،
هاكه العام، في مدينة الكاف، وأنا تلميذ في الثالثة ثانوي، زارنا محمد المزالي وحشدوا له بنات التنمية الريفية في سيارات الباشي، وجلبوا الطبابلية والراقصات على حافتي طريق بن عنين حتى مقر الولاية، عاد أنا عمري 15 عاما، أكاد أنفجر بالهرمونات السيئة للمراهقة والتمرد والثورة ومازلت جديد في دومان السياسة ونقاشات نادي السينما حول فيلم Citizen Kane للمخرج الأسطوري أروسن ويلس،
نجحت في جمع خمسة أو ستة من أمثالي نرقص مثل الدراويش أمام حانة الجمهورية وسينما باتي وننادي "ها نندبهم هاه" للسخرية من الطبال الحكومي وسط ضوضاء تصم الآذان، شيء يليق بيوم القيامة، حتى انتبه "الحاكم" وجماعة لجان اليقظة متاع الصيّاح إلى خبث نوايانا فأكلتنا العصا والدبابيس والركلات والبونية من كل حدب وصوب ولم ينقذنا من مصير أسوأ سوى الفوضى في يوم الحشر ذاك الذي امتلأت فيه المدينة بالحاكم ومليشيات الصياح والقوادين والغرباء،
المهم: كان معي صديق من فضلاوة، وهي قبيلة من جيراننا وحلفائنا وأنسابنا في سركونة، من أكثر خلق الله صلابة وقدرة على العراك وشريان الشبوك، كنا نتفقد collateral damage التي لحقتنا، عاد قال لي بصدق لا يتقنه إلا أولاد سركونة: "يعطي قعرة للطبال الذي يدق في غير عرس، ويعطي بكشة للزكرة التي تزن للحكومة"،