الخزعبلات الإعلامية" التي تنشر هذه الأيام على أنها "صحافة استقصاء" تدخل في باب صحافة "الي يجي يعمل الي يجي" لغياب ذلك الشخص المحوري في الصحافة القادر على تشذيب الفوضى المهنية: رئيس التحرير، حارس قيم المهنة والعارف بما يكون وكيف يجب أن يكون،
عاد من باب السخرية من صحافة "الي يجي يعمل الي يجي"، ففي بدايتي المهنية، كنت مثل "الحمار المهني" الذي لا يرفض طلبا، فصدر قرار بأن أعوض زميلا في ركن أسبوعي من صفحتين حول السيارات، وأنا لا أعرف وقتها السياقة أصلا وكاد الرفض أن يسبب لي عقوبة لولا تدخل رئيس التحرير، كما أذكر زميلا كان يمتنع عن الكلام صباح كل ثلاثاء لأنه "على المنبر"، فهو يكتب خطبة الجمعة في صفحة الدين التي تنشر يوم الجمعة، رغم أنه لم يصلّ في حياته حتى صلاة العيد، وكل ما في الأمر هو أن "يسلخ" خطبة من 300 كلمة من أي كتاب تراث ديني، ثم يعود إلى الفسوق والفوضى،
وكان عندنا زميل في صحيفة أسبوعية يخترع كل أسبوع كذبة من رأسه، ثم يكذبها في العدد الموالي فيتمعش منها مرتين وهو يكذب نفسه، إلا أن أطرف ما حدث لي هو تكليفي بركن "سيروس موندال" وهو عراف يوناني كان في شارع الحرية كنا ننقل إليه "نظريا" أسئلة القراء حول الحظ والطالع، ولم يكن لي أدنى شك منذ أول لحظة في مكتبه، أنه دجال، لكني نقلت إليه ما عندي من أسئلة القراء وهو يبتسم من غباء سذاجتي،
بعد ذلك اكتشفت أن كل من سبقني في هذا الركن كان يكتب الأجوبة من رأسه بموافقة سيروس نفسه الذي تنبأ لكل من زاره من الصحفيين بأنهم سيصبحون مشاهير وأغنياء، بعد ذلك أصبحت أكتب ركن الحظ بأبراجه الاثني عشر من رأسي بدل ترجمتها من مجلة horoscope الفرنسية المحتالة، أمازح بعض الزملاء بسؤالهم عن برجهم ثم أهمهم مدعيا الأهمية: "توه نحل عليك الكتاب، ما تخافش" حتى اشتكى مني رئيس قسم: "شنوه حكاية أبناؤك بحاجة إلى الرعاية، قرأتها زوجتي في حظي أربع مرات؟ شنية حكايتك مع أبنائي أنت؟ قاصدني أنت"، وهو من أخطاء مهنة الدجل لكن من السهل تعديل تصويبه في هذه الحالات لأن مزاج الإنسان هو أكثر الأشياء تغيرا وهشاشة،
ما بقي في ذهني هو أن الناس تصدق تلك الجمل السخيفة التي أكتبها لهم على عجل ودون وعي، كثير مما يبث اليوم على أنه صحافة استقصاء يشبه خزعبلات سيروس موندال، يمكنك تأليفها من خيالك وأنت في بيت الراحة، بعد ذلك أكلت لي قلبي صحافة الاستقصاء والريبورتاجات وصحافة القرب، أكثر من ربع قرن في الميدان، عرفت فيها تونس دشرة دشرة، لم تنفعني فيها ذكريات سيروس موندال إلا في التفطن مبكرا إلى الدجل والكلام الفارغ،
بعد ذلك، وصل إلينا تطور الصحافة في العالم، انتهى زمن الصحافي الكاتب العالم الموسوعي الذي يحتكر الفتوى في كل شيء، يتحدث عن الثقافة والمسرح والتلفزة ثم الاقتصاد باكيا على قفة المواطن ثم ينتقل إلى الحروب وأزمات النفط ويختم بموضوعه المفضل وهو الكرة وصراعات نجوم البارصا والأجور الخيالية للاعبين، كل ذلك بمستوى معلومات تنبير حديث المقهى، لأنه يستحيل أن يكون الإنسان موسوعيا إلا في عالم من الأمية فدخلت الصحافة منذ أوائل الستينات في زمن الاختصاص،
الصحفي المحب لمهنته يختص على ربع قرن أو أكثر في مجال يختاره فيصبح خبيرا فيه مثلما يكتب قاض في آخر حياته المهنية في التعقيب حيثيات قرار تعقيبي يصبح مرجعا قضائيا لكل القضاة والمحامين، مثلما يكتب مهندس قديم تقريرا فنيا عن بناية آيلة إلى السقوط بناء على دقة معرفته وخبرته، يكتب الصحفي المختص مقالا يطيح بسلطة وزير أو حتى حكومة لقدرته على بناء "المحاججة" في المقال وهو شيء مشترك بين كل مباحث الفكر منذ أرسطو، صحفي مختص تثمر خبرته كتابين على الأقل في العام يضافان إلى المكتبة الإنسانية ويترجمان إلى لغات شعوب أخرى محتاجة لأن تعرف وتأخذ من خبرته،
كل هذا، مقابل "صحفي بربع دجاجة"، أقل من مثقفي "كلاب الحراسة" لبول نيزان أو "كلاب الحراسة الجدد" لسارج حليمي، رئيس تحرير في جريدة لوموند، حيث صفة رئيس تحرير لها معنى، "صحفوت" يفهم في كل شيء وآخرها صحافة الاستقصاء، لأن صاحب المؤسسة اختاره بعيدا عن رئيس تحرير يملك القدرة على إقصاء الزنوس وكلاب الحراسة، صانع محتوى حقيقي يحافظ على البناء الصناعي ويؤدب هذه الظواهر الطفيلية التي لا تخجل من إدعاء الفهم في كل شيء،
رئيس التحرير هو مؤسسة قائمة بذاتها، حيث وسيلة الإعلام هي فلوس من جهة ومعرفة مهنية من جهة أخرى، صاحب الفلوس يريد أن يربح وأن يؤثر في المجتمع وصاحب المعرفة يعرف كيف، الـ"كيف" هذه تشمل تحديد خط التحرير، انتداب الكفاءات وتدريب الجدد وإدارة المعارك والخطط الإعلامية وتغطية الأزمات والمحافظة على خط التحرير والمصداقية المهنية للمؤسسة، لذلك طالبنا بفصل الإدارة عن التحرير منذ أن انفتح باب الحرية، لأن الإدارة تريد نتائج ونحن نعرف كيف، إذا دسوا أنوفهم في مهنتنا، ساب الماء على البطيخ مثل أن يقول صاحب المصحة للجراحين: "أنتم لا تعرفون شيئا، أخرجوا من قاعة العمليات فسأقوم بالجراحة بنفسي"،
يصبح "الي يجي" صحفيا أو حتى جراحا ويجمع الزبالة من مواقع التواصل الاجتماعي على أنها محتوى صحفي وينصب كمائن للناس تحت موسيقى حماسية لفيلم "مهمة مستحيلة"، بل رئيس تحرير من تلقاء نفسه وهو لا يفرق بعد بين الخبر والتعليق فما بالك بالأجناس الصحفية وخصوصا الاستقصاء الذي هو على قمة كل الأجناس، ولا يعرف حتى تعريف جريمة الثلب أو نشر الأخبار الزائفة، فيما تنص الاتفاقية المشتركة للصحافة في مجلة الشغل على أن معدل الارتقاء إلى رتبة رئيس التحرير هي سبعة عشر عاما من الخبرة المستمرة لذلك هو منظر في الوظيفة العمومية برتبة مدير عام، حتى البرامج الترفيهية تحتاج رئيس تحرير أو صحفيا محترفا للحفاظ على القيم المهنية والقانونية، هو ذلك الشخص الذي يقول بألم: "لا أتقدم معكم في هذا الموضوع، عيب"، حتى البرامج الوثائقية أصبحت تدرك ضرورة أن يكون هناك رئيس تحرير لكي لا يخرج العمل عن ضوابط المحتوى، أخلاقيا وقانونيا،
أنا دخلت الصحافة المكتوبة في زمن مجد رئيس التحرير، في جريدة الصحافة استفدت من محمد محفوظ رحمه الله وابراهيم اللباسي وابراهيم الصغير الخليفي البارعين في المساعدة والبحث عن زاوية تناول في أي موضوع تجعله جديرا بالصفحة الأولى، كان سي ابراهيم الخليفي يقول لي: "عندك القماش، تعال أعلمك الفصالة"، أما السيد حسن حمادة، فقد كانت لديه عبارة شهيرة حين يحاول أحدهم أن يخدعه بمقال مزيف أو حسب الطلب: "أيا؟ يعيش ولدي؟ يزي من اللعب"، لأن العبث بقيم المهنة كان يتعبر عبثا لا يجوز، عيب،
إن رئيس تحرير حقيقي ومحترم كان سيقول عن الكثير مما ينشر ويبث من خزعبلات هذه الأيام على أنه صحافة استقصاء عبارة شهيرة في صحافة التسعينات "موضوع مجبود من شعره"، tiré par les cheveux، بره شوف حاجة أخرى يعيش ولدي، ثمة مثل تونسي: "إذا تمشي تهزها سلاسل وإذا تجي، تجيبها شعرة"، لقد رحلت مهنة الصحافة محطمة قوة السلاسل الأخلاقية والمهنية،
صحة لك "عمي الراجل"، ليس فقط أنه ليس هناك رؤساء تحرير يمنعونك من هذا العبث ويجعلونك تتبول على نفسك في اجتماع التحرير، بل لأنك تلعب في ميدان أفرغوه من الكفاءات، لأنك وقتها ستعود إلى مهنتك الأصلية التي فشلت فيها لو كنت في حضرة الكفاءات،