قرأت المبادرة التي قدمها الأستاذ الفاضل العياشي الهمامي، تحدثت فيها مع الكثير من الأصدقاء وقرأت أغلب ما كتب عنها هنا، أنا من الذين يتفقون تماما مع الأستاذ العياشي الهمامي في توصيف الوضع، إنما يبدأ النقاش مع عبارة "لو توفّرت بعض الشروط" حيث أعتقد أن الجواب يتطلب العودة إلى "الروح القانونية" التي صاغت الأمر الرئاسي السلطاني 117 وكل ما بني عليه ومنه الدستور والمرسوم 54 وكل ما يمكن أن يأتي من التشريع هذه الأيام ومقارنتها بتوفر الشروط الدنيا لانتخابات حرة ونزيهة بالمقاييس التي اتفقت عليها الإنسانية ولنرى ما إذا كانت المشاركة في الانتخابات المنتظرة هي الحل الوجيه في هذه المرحلة.
العنصر الإيجابي في المبادرة هي شخصية صاحبها الأستاذ العياشي الهمامي بصفته مناضلا صلبا نزيها يحظى باحترام الجميع وقادرا على إيجاد الشيء النادر في بر تونس: أٍرضية يجتمع عليها الناس على اختلاف مرجعياتهم، مازلنا نتذكر نضالاته عندما خصص مكتبه في نهج المختار عطية منذ 18 أكتوبر 2005 لإيواء وحماية الإضراب الطويل عن الطعام تحت شعار "الجوع والا الخضوع" لشخصيات لم تكن تقبل اللقاء معا، وهو الاعتصام الذي جلب للأستاذ الهمامي سخط السلطة فدفع الثمن غاليا إذ تم إضرام النار في مكتبه في 31 أوت 2007،
وهذا المقال ليس لاستعراض التاريخ النضالي لهذا الرجل الكريم، فقط أحب أن أذكر بحالة الاستبشار بمقترح تعيينه رئيسا للمحكمة الدستورية في جويلية 2019 والذي انتهى إلى "طعنات خلفية" من الأصدقاء، وأنا متأكد أن الأستاذ الهمامي لا يخشى مثل تلك الأشياء التي ستكرر مع هذه المبادرة بقدر حماسه وإيمانه بوطنية مبادرته وأنا ممن يثقون به دون شروط، لكن السؤال ليس هنا، بل في ما يمكن أن تؤول إليه المبادرة في المنظور القريب خصوصا بعد ما نشرته رئاسة الجمهورية وهو لا يمكن أن يكون إلا:
فرضية أولى:
حملة إيقافات لكل من يترشح للشأن العام ممن يمكن أن يراهم السيد الرئيس "غير وطنيين" كما قال صراحة في أحد تدخلاته في وسائل الإعلام أو ما نشرته صفحة الرئاسة بما يمثل جوابا على هذه المبادرة بطريقة غير مباشرة عن المترشحين المحتملين للرئاسة وهي مليئة بالتخوين والاتهامات الخطيرة والوعيد والتهديد العام الغامض الذي يمكن أن يشمل أي أحد في حضور سادة القوة العامة الصلبة: كمال الفقي، وزير الداخلية والسيّد مراد سعيدان، مدير عام الأمن الوطني، والسيّد حسين الغربي، المدير العام آمر الحرس الوطني،
وفرضية ثانية:
السماح بمشاركة هزيلة في انتخابات غير متكافئة في وضع لا يضمن الحد الأدنى من التنافس النزيه، لكن مجرد المشاركة والترشح هي أسوأ ما يمكن تقديمه: تزكية مجانية واضحة وقبول إجباري بالنتائج التي يتوقعها الجميع،
بقي شيء آخر في الوسط، وهم من يرون أن مجرد المشاركة في الحملة الانتخابية مع إمكانية مقاطعة الانتخاب يوفر فرصة منبر وطني ودولي للنقاش علنا في الفضاء العام عن أزمة بلادنا ولنقل صورة الوضع إلى الرأي العام وأنا من جهة مهنتي في الصحافة لا أتفاءل أبدا بمثل هذه الأفكار لمعرفتي بسهولة تدجين وسائل الإعلام ولظهور طرق جديدة لتضليل الرأي العام دون اعتبار جحافل الكرانكة والدخلاء على الإعلام ممن فشلوا في مهنهم الأصلية وهم جاهزون لخدمة أي سيد يملك القوة والإدارة، هناك أيضا من يرى أن المشاركة في الانتخابات بورقة بيضاء هو عمل نضالي أيضا، ربما، ثمة حتى من يحلم بأن بلوغ الأوراق البيضاء نسبة ثلاثين بالمئة كاف لإلغاء الانتخابات نفسها، وهو كلام شاعري بلا معنى بالنظر إلى موقف السيد الرئيس من نسبة المشاركة في الانتخابات السابقة،
بالنسبة لي، مواطنا تونسيا مكتمل الحقوق لا أجد مبررا واحد للذهاب إلى مكاتب الاقتراع منذ الأمر الرئاسي 117 حيث أحسست أن دولة السيد الرئيس لم تعد بحاجة لرأيي في أي شيء وأنها ماضية في ما يريده السيد الرئيس حتى دون المشاركة في أية انتخابات وليس فقط بنسبة 8 بالمئة، كما، مازلت أذكر القرار القضائي باتخاذ التدابير لتحجير السفر على الأستاذ العياشي الهمامي ومنعه من الظهور في الأماكن العامة في قضية تتعلق بالتآمر على أمن الدولة الداخلي، ورغم ذلك، تبدو لي مبادرته منفذا لبداية البحث عن طريق للخروج من هذه الأزمة التي نحن فيها وأجد كل المبررات للحماس للحديث عن موضوع المبادرة، مع اعتقادي العميق أن الأستاذ الهمامي ومبادرته هما من أفضل ما تتابع في هذا الوطن الكئيب.