أقف في باب حوش خالتي رحمها الله في "كبريتة"، قلب سركونة الروماني قبل أن يأتي أهلي إلى هذا المكان بأكثر من خمسة عشر قرنا، أقف حائرا في مصير صراع الذاكرة ضد الغياب: داليتا عنب محلي تحولتا إلى حالة وحشية ودافعتا عن حقهما في الحياة حين لم يتفقدهما أحد: دالية العنب تحب من يحنو عليها، يجلس في ظلها ويحدثها، الكبرى سقطت تحت ثقل الأغصان التي امتدت مع الأرض، لكنها حية ومليئة بالعناقيد الواعدة، الدالية الصغرى احتضنت شجرة خوخ كسرتها الريح، فعاشتا معا، لكن من سيفرح بجنيها غير العصافير؟
حوش خالتي التي هي الأم الكبرى لبقية شقيقاتها بني فوق آثار رومانية، لقد وجد أثرياء روما قبل ثمانية عشر قرنا طريقا إلى هذا المكان الغريب وتركوا حجارة كثيرة وعلامات حياة مترفهة منها الجزء السفلي لمعصرة زيتون لا أحد يملك تفسيرا لقدرتهم على صناعتها أو تحريكها لثقلها وأحواض ماء قطعت من الصخر.
في طفولتي، ذهبت أنا وابن خالتي الذي أكبره ببضعة أشهر لسرقة التين من بستان خالنا الكبير في غرغور القائلة، وفيما نحن نتلذذ نذالة طعم "السرقة بين الأهل" داهمتنا كلبته الشرسة، هو يعرف طريق الهرب وأنا جعلت أجري مراوغا حيث ما اتفق بتأثير الرعب حتى رخّت بي قدمي اليسرى إلى الركبة فوق شيء هش، عندما سحبتها رأيت جمجمة بشرية دون الفك الأسفل وعظاما بشرية وأواني فخار، قبر من "قبور الجهال"، وكان يبدو لي أني حيرت نبيلا رومانيا في منامه الأزلي منذ أن جاءت به روما إلى أرض سركونة، وأن روحه المغتربة سوف تأتيني في الليل، عندما ينام الجميع لكي تأكل بطني، هكذا قالت لي هواجس أساطير الطفولة وأنا في هذا الحوش،
أكاد أسمع صوت خالتي تشكو آلام البرد في مفاصلها وهي تتوضأ لصلاة المغرب، أصوات قطيع الخرفان والأبقار تعود إلى اسطبلاتها عند المساء وسط نباح الكلاب، رائحة كسرة قمح الدير التاريخي "كانك راجل: كمل كول جردقة"، وأشباح الذين كانوا هنا، من الحاج الأخضر الذي كان يؤذن لسكان سركونة ويشعل التبن إعلانا عن المغرب في رمضان مع عودة إلى الآباء الأوائل الذين رموا بذريتهم في هذا المكان الموحش هاربين من أهلهم في عقلة شارن مع خط وادي ملاق بحثا عن مكان حصين لا يصله الحاكم، وجدوا أرض العزلة في هذه التلال المكسوة بغابات الضرو والطقاي والصنوبر لكنهم أحبوها لأنها كانت أرض النحل والعسل وفرائس الصيد وخصوصا الحصانة، وهي أيضا أرض الضباع والذئاب المحلية وقط الزبد والضرابين، إنما أسوأ ما فيها أنها بلا ماء، فيها عين واحدة أعطت المكان اسمه: "كبريتة" بطعم البيض الفاسد بسبب تحلل مادة الكبريت مع الماء النازل من مرتفعات الدير وهو ما أغرى شركات النفط بالتنقيب فيها، حتى ولدت أنا في هذه الربوع ثم كبرت ودرست وقدر لي أن أشتغل في وزارة الطاقة يوما فسألت عن نتائج التنقيب عن سوائل وغازات ما تحت الأرض التي حدثت في تلك الربوع طمعا في أن يكونوا عثروا على الماء، قيل لي بأسى: لا تحاول، ليس هناك ماء في سركونة ولا نفط ولا غاز"،
أستحضر تاريخ الحوش وتداهمني رغبة في وضع أحمال الحياة والاستراحة هنا مسلما روحي إلى صمت المكان الساحر، قوجة الكسرة ما تزال كما هي، أدوات البيت والأسرة وأواني الماء وبقايا حطب، أن أتمدد في الظل حتى المغرب ثم "نعمل فيها زنس براد تاي" على نخب الذكريات والذين رحلوا من هنا، يا إلاهي، إننا كائنات من ذكريات وحنين،
وفي أثر الذكريات، وقفت على عين كبريتة، لقد عاد إليها الماء مع الأمطار الأخيرة، إنما بدت لي مكانا شاقا سحيقا مثل هوّة عملاقة، قد تنزل إليه، لكنك لا تضمن أن تطلع منه بسهولة، أنا جئته في أثر الذكريات الرائعة، لكن بأية رغبة في الحياة تحمّل آبائي هذا المكان الصعب؟ أصلا: لماذا جاء أبناء روما للعيش هنا؟