عندي صديق دراسة قال لي: "بالله يزينا من خرافة تونس مطمورة روما في القمح، كان ذلك وقت سكان تونس أقل من مليون شخص والآن نحن 12 مليون مع 8 ملايين بين سواح وأشقاء ليبيين وجزائريين سنويا"،
بالشوية صاحبي: لما كانت تونس مطمورة روما، كان ثلاثة أرباع الأراضي الزراعية حاليا أحراشا وغابات مليئة بالوحوش ومنها الأسود تعيش من عين دراهم إلى القصرين، كانت تقنيات الزراعة بدائية وكان أصعب شيء هو نقل الماء أو الحبوب، الآن ينقل الماء من فرنانة في جندوبة إلى الساحل بضغطة زر،
ثم، لنضع المعلومات الأولية أمام الجميع: أنا أدركت البذور التونسية الأصيلة: الشلي، المحمودي، رزاق، كريم، جناح الخطيفة، في أسوأ سنوات الجفاف لا تجوعك فقد طورت نفسها طبيعيا لتحمل الجفاف والأمراض وعدم الحاجة إلى الأسمدة أو الأدوية. أسمدة طبيعية مع اعتماد التداول الطبيعي المثري بين القمح والفول والحمص أو الحلبة، في السنوات المتوسطة: عندك 15 إلى 20 قنطارا في البونتو، بالحساب: تملك الدولة 500 ألف هكتار من أخصب أراضي تونس: حين يتعلق الأمر بالأمن الغذائي فهي ثروة، ليس أقل من 7.5 مليون قنطار من الحبوب في السنوات المتوسطة بالبذور الأصلية دون حاجة إلى لوبيات الأدوية المستوردة، يعني نصف معدل الإنتاج الوطني وربع الاستهلاك، إذا اهتممنا بالري الذكي للحبوب فيمكن رفع الإنتاج بالبذور المحلية إلى 30 قنطارا في الهكتار، يعني قرابة كل الإنتاج الوطني، دون اعتبار مليون هكتار على ملك الخواص بإمكانه ضمان الباقي،
كلهم يعرفون أنهم "لعبولنا اللعبة" حين قدموا لحكامنا بذورا مطورة جينيا، تعد بـ25 قنطارا في الهكتار، لكنها تتطلب الكثير من الأسمدة والأدوية التي يحتكرون صناعتها بأسعار مشطة، بذور غير قابلة لإعادة البذر، كلفة عالية في الإنتاج وفي التخزين وجوع حقيقي عند الجفاف أو التخلف عن مواعيد الأسمدة والأدوية، الرابح الوحيد هم موردو الأدوية والعقاقير،
أكبر معضلة في تونس هي غياب خارطة فلاحية: ننتج ماذا وفي أي مكان وبأية كلفة خصوصا الماء، آخر خارطة فلاحية عملتها فرنسا في 1923، حاول رجال صادقون تحيينها في 1984 دون جدوى، لا علاقة لها بالماء ولا بالأرض فما بالك بحاجيات الاستهلاك، أصلا: الأراضي الفلاحية التي ستعمل بها خارطة إنتاج تباع بالحبل لتبييض المال المجهول لإقامات فاخرة لنهايات الأسابيع،
20% من إنتاج الحبوب يضيع بين التجميع والتعيير والتخزين والنقل،
40% من الماء يضيع في شبكات التوزيع والري العبثي والجمعيات المائية الغبية، 85% من الفلاحين من كبار السن، جيل على وشك الرحيل من المحافظين يخافون من مغامرات التقنيات الحديثة وكلفتها، 80% من الأراضي أقل من 10 هكتارات، 65% ملكيات مشتركة غير قابلة للرهن من أجل التمويل،
أكثر من 50% من الفلاحين مرهونون للبنوك ويعجزون عن تطوير الاستغلال بسبب ديون أقل من 5 آلاف دينار سنويا، فوائضها أكثر منها،
معدل 50% من سعر البيع النهائي في الفلاحة يذهب إلى الوسطاء والمضاربين، لأن الدولة التونسية ما تزال ترفض السماح بإنشاء تعاونيات فلاحية لتمكين الفلاحين من البيع المباشر،
لم يعد إنتاج الحبوب مربحا لأحد في تونس، الدولة تستورد القمح بأكثر من 100 دينار لكنها تعطي معدل 65 دينارا للفلاح التونسي (معدل التعيير عند القبول) حيث فلوس الدولة البيروقراطية تحب الانتظار والسؤال ودفع البشارة، وفلوس إنفاق الفلاح مسبقة: "حبّ، نقد، توّه"، البذور الممتازة بالعلاقات الخاصة والرشوة، كذلك الأسمدة والأدوية، ماكينة الحصاد لا تتحرك إلا عند دفع ثلث الكلفة مسبقا، تعيير الحبوب أيضا يحب علاقات،
هذا استعراض مستعجل لأمراض الغذاء في تونس، فقط لكي تعرفوا أنه لا أحد، على حد علمي اشتغل على حل لهذا الوضع، مشكل الماء وحده يتطلب حكومة ورجالا متنفذين لا يغلبهم عمدة يمارس الوشاية السياسية ويجمع بين رئاسة الجمعية المائية والانتماء السياسي وتحوز أرض الدولة بغير وجه حق دون أن يدفع مليما منذ خمسين عاما، ولا واحد متنفذ يتحوز على مئات الهكتارات من أخصب أراضي ولاية منوبة حولها منذ ثلاثين عاما إلى ملهى اجتماعي شهري، وفشلت الحكومة في تطبيق الأحكام القضائية النهائية ضده،
المعنيون باتخاذ القرار لا يجوعون، سوف يأكلون البشكوطو المستورد إن لزم الأمر، يفترض أن أبناءهم يدرسون في الخارج وزوجاتهم وعشيقاتهم يتسوقون في دبي، وعندهم بطاقات دفع إلكتروني من حسابات في "كريدي سويس"، أما ندرة الحبوب بسبب حرب أوكرانيا أو أي حديث عن الأمن الغذائي في تونس، فلا يعنيهم، أنا أكتب إلى الناس البسطاء مثلي، تقاسم المعرفة، أيا كانت بسيطة، هي مسألة إنسانية قديمة،
في انتظار عبقري يعيد اختراع الفلاحة
"تشد ورقة وستيلو" وتحول كل المعطيات حول أزمة الحبوب والأعلاف والزيوت والنفط في ظل أزمة أوكرانيا إلى رسوم هندسية، تضيف إليها أزمة المالية العمومية وندرة العملة الصعبة وسداد الديون فتصاب بالإحباط،
إذا توقفت الحرب في أوكرانيا والعقوبات على روسيا، فسوف يحتاج العالم إلى 18 شهرا لعودة الإنتاج وهدوء سلاسل التزويد، خصوصا حين تقرأ تقارير عن هروب الفلاحين وعمالهم من مناطق إنتاج الحبوب والأعلاف والزيوت النباتية، ألم أقل لكم، إننا، من حيث قلبناها، لا نجد ما يطمئن فيها؟
إذا وقعنا على عبقري يعيد اختراع الفلاحة في تونس، فسوف نحتاج في أحس الحالات إلى حلقة من 7 إلى 8 أعوام لكي نحقق الاكتفاء الذاتي، في الأثناء، ربما نحتاج إلى تقسيط الخبز والعجين والزيت في بطاقات تموين، اللحم الأحمر سيصبح شبهة إثراء غير مشروع، الدجاج، إذا حدثت أزمة في الأعلاف وارتفعت أسعارها، فسوف نكتفي منه بالعناكيش والأجنحة،