مرة، يمكن عام 2002، كنت أشتغل على جملة من الأجناس الصحفية حول السياحة، عاد، وقعت على وثائق وتصريحات حول سنوات الستين والسبعين، حين كانت الحمامات مثلا قرية فلاحين صغيرة تحميها طوابي الهندي من غدر البحر المتوقع في نبوءة سيدي الجديدي التي تقول إن البحر سوف يغمرها ذات يوم جمعة بعد أذان الجمعة الأول، تماما كما حدث لمدينة نيابوليس الإغريقية التي توجد آثارها تحت البحر،
عاد فتتكم بالحديث: أول من فكر في السياحة كنشاط اقتصادي كان أحمد بن صالح في الستينات، الطريف أن أول نزل بنته الدولة التونسية في خطة السياحة كان في مدينة الكاف: "ماسينيسا" في إشارة إلى الملك النوميدي الشهير وعاصمته الكاف والمراهنة على السياحة الثقافية البيئية، وهذا النزل مبنى كئيب بائس مثل كل بناءات الحكومات الاشتراكية في الستينات وهو الآن مقر معهد الإعلامية،
ولما أطيح ببن صالح ضاعت الفكرة ذاتها، وظهر واحد دجال كان صديقا لعائلة بورقيبة ويدعي أنه لورد بريطاني، كان يسكر مع جماعة من كبايرية الدولة الوطنية وقتها في شواطئ مهجورة قريبا من الحمامات وينامون في مبنى من الآجر التقليدي والجبس بسقف مقوس، كان ملهوف على عمولات السمسرة بين الدول الفقيرة أو التي ليس لها أفكار والقوى الاقتصادية الكبيرة، عاد سيدنا دخل إلى دماغ الزعيم بورقيبة وأقنعه بأن الفلاحة حكاية فارغة تماما وأنه لا مخرج لتونس إلا بالاستثمار في سياحة الفقراء tourisme de masse بحجة أن تونس ليس لها ما تبيعه للعالم سوى البحر متاع ربي ورخص الكلفة لكي تجني العملة الصعبة وتمول وارداتها،
ومن وقتها عينك ما تشوف إلا النور لكي تداهمنا مجموعات مثل "club med"، ثم ظهر المهفات في المناطق السياحية ببلاش: الأرض من الدولة والتمويل من الدولة وجلب السياح الفقراء على حساب الدولة، لكن الحقيقة أننا، لتعاملنا مع سياح فقراء من المتقاعدين وصغار الموظفين، وصلنا إلى حد بيع الليلة بـ 9 أورو عندما كان الأورو يساوي دينارا ونصف، وراهنا بكل إمكانياتنا من خبز وزيت وكهرباء وماء مدعومة وديوان سياحة وبعثات سياحية وبوليسية للحراسة مقابل الصيغة السحرية "all inclusive" : طيارة، حافلة، فتيات جميلات في الاستقبال بالمشموم، جماعة يرقصون بالطبل والقلة فوق الرأس وبعير عجوز للاستقبال، واكل شارب وأشياء أخرى،
طيلة ثمانية أيام وسبع ليال، مقابل 180 أورو في بداية الألفية مثلا، فلا يبقى لتونس غير "القرندح" كما تقول جدتي. باهي؟ عندك معالم أثرية مهمة في تاريخ الإنسانية؟ عندك منتوج ثقافي متميز يستحق الرحلة؟ لا؟ إذن بقي لك البحر والشاطئ ونزل مغلق على سواحله ومحمي بالبوليسية والحراس الغلاظ، هذا لا يستحق أكثر من 9 أورو لليلية.
بعد أن وقعت الثورة التونسية التي يتهمها الأذكياء منها بأنها ثورة عبرية صهيونية، كان الأدلاء السياحيون هم أول من نظموا رحلة من ست حافلات لرفع الظلم عن العمق الحقيقي للبلاد وللعودة على طريق السياحة الثقافية والبيئية في الشمال الغربي من الحواضر التاريخية: دقة وبلاريجيا والكاف ومائدة يوغرطة والأربص التي أعطت سوسة اسم أحد أجمل شواطئها لأبي جعفر الأربصي إلى حيدرة وسبيطلة، "ضربوا ضربوا قدر جهدهم"، لكن الماكينة القديمة لصناعة الثروة في تونس هي التي غلبت وانتهى الموضوع،
كل ذلك لأننا تورطنا ووضعنا كل فلوسنا الوطنية وأرضنا وبحرنا في سياحة الفقراء كما دبر علينا اللورد الدجال ولم يعد هناك مجال للعودة إلى الوراء في حرب المنافسة التجارية الدموية في حوض المتوسط، وإلا: من سيدفع أجور مئات الآلاف من العمال ومن أين ستخلص تلك القروض المتلتلة من البنوك العمومية وفواتير الكهرباء المدعومة والماء للمسابح الفاحشة؟
الشيء الوحيد الذي حدث هو أن جماعة النزل دفعوا الدولة إلى إقرار قانون يمكنهم من ترك بعض مداخيلهم بالعملة الصعبة خارج البلاد، لزوم الإشهار والعلاقات العامة، لكن الجميع يعرف أنها ثغرة لتهريب العملة كما قال محافظ البنك المركزي، الباقي عندنا اليوم أكثر من نصف النزل المغلقة لم تجد مبررا لإضاءة حتى مصباح خارجي للإعلان عن وجودها بسبب كلفة تشغيلها الفاحشة،
لكن لا أحد يحب أن يعود بنا إلى حديث اللورد البريطاني الدجال، الله لا ترحم له عظما مع أخيه في قبره، ولا إلى خيار سياحة الفقراء الخائبة، أتمنى أن أرى سياسيا واحدا يعمل مقارنة عادلة بين ما أنفقته الدولة لدعم سياحة الفقراء وما أنفقته لدعم فقراء الفلاحة الذي يمثلون 85% من جملة الفلاحين، الله لا تربح من كان السبب،