نحن إزاء أسوأ عودة إعلامية في تاريخ تونس، حتى في زمن بن علي، لم أنظر بمثل هذا التوجس والخيبة إلى الساحة الإعلامية، أنتم تنظرون إلى نتائجها وأنا أرى بوضوح أسبابها: جيش المشاة المتكون من كتائب الكرانكة الذين فشلوا في مهنهم الأصلية يتقدم en ordres serrés على الميدان وسط دخان البارود ودوي مدافع المعارك الخاسرة،
لا أعمال صحفية حرفية من ريبورتاجات وحوارات وأعمال استقصائية، لا دراسات يمكن الاستناد إليها، فقط les nouveaux chiens de garde للكاتب سارج حليمي تملي على قطيع الكرانكة من عليها تمزيقه إربا،
العالم كله ذهب منذ الثمانينات إلى أن الصحافة عمل صناعي وليس عملا موازيا للهواة وأصحاب أمزجة التصفيات الإديولوجية، محكوم بجملة من المواصفات المهنية والقانونية حيث يجب على من يتولى صناعة التعليق على الأحداث أن يكون مختصا في مجاله، منتجا للمعرفة من خلال إعطاء معنى لحدث، بجمع المعلومات الأولية المثبتة بمصادرها ووضعها في نسق يجعلها تنتج حقائق جديدة، إلا في تونس، حيث ينطلق الكرنوك من جملة من "الأكاذيب الحقيقية" الرائجة وعبارات الثلب التي تكون أركان جرائم حق عام واضحة لكي يبني عليها جملا هذيانية وسط موافقة منتج البرنامج الذي أتخيله يقول: "البرنامج متاعنا ونحن أحرار فيما نقوله في ملكنا"،
يستطيع أي صحفي يحترم نفسه أن يمسك واحدا من هؤلاء فيفتقه من بعضه مهنيا وقانونيا في 3 دقائق ليعيده إلى حجمه الطبيعي بصفته مرتزقا وظيفيا، لكن أهم مواصفات هذا الموسم الإعلامي هي إقصاء أي صوت صحفي مهني يحترم نفسه، الحل: ويني الكوموند؟
صحيح أنه سوف يتم تسميم الوعي العام وربما يتسببون في اضطرابات اجتماعية كما يحدث منذ 2012 بتحويل الأكاذيب اليومية إلى حقائق صلبة، لكن تصوروا وزير خارجية الدولة التونسية يتحدث مرة عن "فيزا الجهاد" أقرتها تركيا للتونسيين المسافرين للقتال فيي سوريا، حين سألوه عن المصدر، قال جريدة تونسية، صحيح أن تركيا قبلت وسمحت بمرور المقاتلين على أرضها إلى سوريا في إطار تفاهمات دولية استعمارية، لكن سفر التونسيين إلى تركيا لا يحتاج فيزا أصلا: لا جهاد ولا نكاح، ويوجد في تركيا عشرات الآلاف من رجال الأعمال والمثقفين والطلبة التونسيين، أما صحة والله، إنما نتيجة التسميم الإعلامي النتيجة هي نفسها لما حدث في تونس منذ 1998 وهي هجرة الناس نحو وسائل إعلام أجنبية، هي بدورها لها أجندتها، لكنها توفر الحد الأدنى من المصداقية المهنية خارج حرب الكرانكة في تونس، على الأقل تدعو طرفي الموضوع، دون الحاجة الوهمية إلى الكرانكة من شذاذ الآفاق والفاشلين في مهنهم الأصلية،
هل تعرفون ما يؤلمني في المشهد: أنه يمكن أن تنجز في ثلاثة أشهر فقط وبربع ما ينفقونه على هذه البذاءات، وسيلة إعلام وطنية رائعة بكفاءات تونسية تحوز على أعلى نسب المصداقية اعتمادا فقط على الحرفية المهنية واحترام قوانين المهنة وقوانين البلاد، بشرط مبدئي: أن لا يتدخل أصحاب المؤسسة في محتوى التحرير الذي يعهد به إلى صحفيين محترفين، وليس إلى شذاذ الآفاق والفاشلين في مهنهم الأصلي