في أحد أيام حرب تموز 2006، كنت الصحفي الوحيد الذي رافق النائب البريطاني الشهير جورج غالاوي في سيارة واحدة وهو يغامر بين القنابل والصواريخ التي لم تنفجر بالوصول إلى آخر نقطة عند مدافع العدو حين رفضت وسائل الإعلام الدولية تغطية زيارته التضامنية إلى الجنوب اللبناني المدمر، قال لي ونحن في مدينة صيدا عاصمة الجنوب "جئت لأعتذر للشعب اللبناني وأنقل تحيات أطفال لندن للسيد حسن نصر الله"، مازلت أتستحضر بفخر كيف صورني أحد مقاتلي حزب الله عند أول دبابة ميركافا فخر الصناعة الصهيونية تم القبض عليها حية ومنعها من تفجير نفسها عندما تفقد قيادتها، نصبوها حية عند وسط بنت جبيل غنيمة حرب في مجزرة الدبابات في سهل البقاع،
أنا أحببت أن أتقاسم معكم ذكريات الحنين مع تواتر أسماء القرى اللبنانية في أخبار القصف الصهيوني وهي قرى قضيت فيها أياما مثيرة مع المقاومة اللبنانية والحزب السوري القومي الاجتماعي التي انضمت وقتها إلى حزب الله، قرى عيناتا وكفر شوبا وعيتا الشعب ومجدل سلم التي سوف أعود إليها، لم أقرأ عن روح الجنوب اللبناني قرية بنت جبيل وعلى مرمى البصر منها مارون الراس في مرمى دبابات العدو وكلها تتبع محافظة النبطية واستحضر تجربتي المتواضعة في تغطية حرب تموز 2006،
إلا أن ما وقفنا عليه وقتها في قرية بنت جبيل يشبه تماما ما يحدث لغزة: دمار غير إنساني لا يقدر عليه غير الصهاينة، كنا نشم رائحة غريبة لمعدن محترق تبين فيما بعد أنها رائحة قذائف يورانيوم منضب من الدبابات، أغرب ما صار لي وأنا مع ثلاثة أطباء سودانيين واثنين من مقاتلي حزب الله عائدين من الجنوب عند المساء في سيارة إسعاف حين حوم فوقنا في السماء منطاد صهيوني هو عادة مقدمة للقصف فقادوا السيارة لإخفائها عن آلات التحسس الحراري في المنطاد إلى بيارات الموز والبرتقال في أول قرية على طريق العودة إلى بيروت: مجدل سلم، احتفى بنا الأطفال يجرون مع السيارة ثم بالوقوف أمام آلة التصوير، أخذني مختار القرية العجوز من ذراعي "أنت الصحفي؟ تعال معي" إلى بيت جميل في القرية، لم يبق فيه سوى القط يتمسح بسيقاننا علاجا للعزلة والخوف، لأن صاروخا بوزن 1500 كيلو سقط في الحديقة دون أن ينفجر فهرب سكانه، قال حزب الله إنه يحتاج إلى عامين لتفكيك كل القنابل العنقودية والصواريخ التي لم تنفجر في الجنوب لكثرتها،
أروي لكم هذا من أجل شيئين، الأول، أن الذكرى والرائحة تعود إلي، ليست لديكم فكرة عن الدمار الذي يحدثه الانفجار بالجثث الآدمية والروائح الكريهة التي لا تشبه أي شيء سيء تعرفونه والتي تأتي من الذاكرة حتى في المنام، شيء لا نشفى منه أبدا، عن الوجوه التي تفقد الملامح والمعنى وعن لوعة الأم تبحث عن فلذات كبدها وسط الركام، عن الموت العبثي الذي لا يفرق بين الأطفال والمقاتلين، والثاني، عن حزب الله،
لقد عرفت أغلب الدول العربية وطبعا أغلب جيوشها التي تمد أيديها في كل مظاهر الحياة والسلطة وقد خرجت بقناعة من تلك الحرب أن حزب الله يمكن أن يهزم أي جيش عربي إلا إذا تحالف مع دولة عربية، كانت عنده عقيدة عميقة للقتال تجعل مئات الشباب من كل الطوائف اللبنانية التي لا تحصى يتزاحمون للتطوع للقتال في الجنوب وقتها تحت إشراف حزب الله، حتى المسيحيين، رافقت شبابا من الحزب السوري القومي الاجتماعي وكانوا على درجة من الوعي والتضحية لا يمكن تفسيرها إلا بالعقيدة القتالية السليمة التي تصنعها القضايا العادلة،
الجيوش العربية لا تدافع حتى عن الأنظمة التي صنعتها، جنرالات بلا حروب إلا ضد شعوبها وجيوش بلا عقيدة تدافع عن نفسها ومصالحها من حيث المبدأ وعلى من في النظام "تجاريا" أي الامتيازات مقابل قتال من يعارضك، لقد مثل حزب الله وقتها حالة استثنائية في العالم العربي، شباب يملك قضية عادلة تستحق القتال والموت، الآن نحن إزاء حالة قتالية أكثر تطورا وعمقا تجمع بين القضية العادلة والإيمان العميق، أعطه بندقية وسوف يطيح بأعتى قوة في العالم، وهذا شيء أكثر قوة من الخذلان الذي ترونه، إنهم أكثر هشاشة مما تتصورون، لو هبت رياح الحرب الحقيقية وسوف تهب، لبحث أكثرهم عن أقرب منفذ للهرب.
في الأخير، اسمحموا لي من باب الذكرى أن أحتفل بذكرى السيد المبجل سيد آل حمود الذي شرفني بالإقامة في بيته في صيدا وفتح لي أبواب الجنوب، وقبله السيد معن بشور وزوجته الفاضلة نجلاء بشور وكثيرين منهم السيد غسان درويش المكلف بالإعلام وقتها في حزب الله والذي استقبلني بالكثير من الود محذرا: "عندنا الكثير من الصحفيين المزيفين المحتجزين بصفتهم جواسيس وبلدانهم تفاوض معنا الآن سرا"، كان آخر من ودعني وأنا أغادر لبنان محييا الشعب التونسي مطمئنا على آخر ظروف سلامتي حت دمشق، كما وعدني في اول لقاء في الضاحية الجنوبية، معقل الحزب، إليهم جميعا تحية الذكرى فأن لا أنسى أبدا،